جفرا نيوز -
بقلم سامح المحاريق
أطلق المفكر الاقتصادي جوزيف ستيغليتز وصف التسعينات الهادرة على الفترة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي والدخول في عالم أحادي القطبية، فهذه الفترة شهدت العديد من الإنجازات الفعلية والنمو الاقتصادي الحقيقي، وكان الأردن الذي دخل التسعينيات وهو يتعكز بعد أزمة اقتصادية عميقة في 1989 من المستفيدين من فترة التسعينيات، بل وواصلت البلاد أداءً اقتصاديًا قويًا حتى العام 2008، عندما أخذت تتأثر الأردن، مثل غيرها، بالتبعات المتلاحقة للأزمة المالية العالمية.
تمكن الأردن من استيعاب صدمة سقوط بغداد في نيسان 2003، ولكن العقل السياسي في بعده الاستراتيجي وفي خياراته الإدارية كان يدرك أن بغداد مجرد بداية، وكان ذلك تقديرًا صائبًا كما أثبتت المرحلة اللاحقة، حيث وجدت التيارات المتطرفة في العراق الثقب الأسود الذي منحها بؤرةً للتمركز والعمل، ولم تكن عمان بعيدةً عن ذلك، لتشهد في تشرين الثاني 2005 أحداثًا إرهابيةً موجعة، أنتجت حالة من الحساسية الأمنية، خاصةً أن الشريك الأمني في حالة العراق كان غائبًا، وهو ما أصبح يمثل الحال بالنسبة لدول عربية أخرى، فهو غائب أو يفتقد الكفاءة ليضع المعلومات الضرورية لدى الأردن.
ثم كان الربيع العربي، وأتت ضرباته الاقتصادية بصورة متتابعة، فينقطع الغاز المصري لتشهد معادلة الطاقة المعقدة والصعبة أصلًا في الأردن المزيد من التحديات، ومع ذلك لم يشهد الأردنيون انقطاعات طويلة أو مبرمجة للكهرباء، وفي المقابل تصاعدت المديونية.
المواطن الأردني لم يشعر بعمق المشكلة، لأنه لم يعش معاناة أصبحت شائعة في نصف الدول العربية، وهنا بدأت إشكالية عميقة تتمثل في اللعب على وتر الرضا الشعبي وإدخاله في معادلة السياسة، وأصبحت الشعاراتية تفرض نفسها، وتزايدت الشعبوية وأصبحت النغمة السائدة، فالجميع يمتلك الحلول التي وجدها تحت الإضاءة المتواصلة.
أتت الأزمة السورية، وانغلق السوق السوري أمام الأردن واضطربت صناعة النقل الحيوية، وشهدت الأردن موجة لجوء واسعة، لها سلبياتها وإيجابياتها على المستوى الاقتصادي، ولكنها أنتجت حالة من عدم اليقين تفاعلت أمام صناع القرار.
ثم كان ترامب، وصفقة القرن، وصعود اليمين الإسرائيلي، لتصبح الأردن فعليًا في موقع لا توجد حوله اتجاهات مواتية.
كيف يمكن أن نخطط في هذه الحالة، أرقامنا متباينة بين ثمانية ملايين مواطن، ووجود أحد عشر مليونًا، متى سيعودون لبلدانهم، من سيتحمل التكلفة، كليةً أو جزئيًة، هل ستذهب المنطقة إلى الهدوء ويمكن الحديث عن استثمارات أردنية في محاور تجارية، أي محور سيكون مجديًا، تركيا والخليج العربي، العراق ومصر، ماذا عن الفلسطينيين، هل ستعود صفقة القرن؟ هل سيضطرون إلى قبولها على خلفية تنحية احتمالات الإبادة الجماعية التي ظهرت (إسرائيل) غير مترددة في تطبيقها؟.
هكذا هي الحال، وبذلك ينغلق الأفق الاستراتيجي، وتبقى الهوامش التكتيكية، أو الجانب الذاتي في السلبية الحكومية والذي يظهر في البدائل التي طرحت في ملف الطاقة، وتكلفتها المباشرة والبديلة، والسياسات الضريبية الفاعلة في المدى القصير على حساب خدمة الأهداف الطويلة الأجل، وضبط سوق العمل مع إصلاح في التعليم وتحفيز للعمل المهني، وجميعها ملفات تمضي بصورة متفاوتة وأحيانًا تخضع للشكليات ولمجرد التقييم من غير وضع البدائل، أو وضعها من غير تنفيذ بسبب العوائق الكامنة في التعليمات والممارسات السائدة.
ما هي العوامل التي لحقت بالأداء الحكومي لتجعل الوتيرة السائدة هي التأجيل والتمهل والخطوتين للوراء مقابل كل خطوة للأمام؟
عادة يأتي الوزراء التكنوقراطيين بما يعتمد على شخصياتهم ويدخلون تجربتهم من غير غطاء حزبي، ويتحملون المسؤولية بوصفها وقتًا مستقطعًا من مسيرتهم المهنية، ولذلك، فمعظمهم يعايشون حالة من الحساسية تجاه النقد الذي ربما وعادةً لا يكون موجهًا للوزير بصورة شخصية، ولكنه تعبير عن حالة عدم الرضا العام التي يكون مصدرها فعلًا ايجابياً، ليس بمعنى نتائج الفعل، أي أن الايجابية في هذه الحالة، تعني مجرد الفعل، ولأن الفعل الإيجابي أو المبادرة بالفعل، تكون اتخذت من مسؤول سابق، وآتت نتائج غير مواتية، بسبب القرار نفسه، أو الظروف التي تحاوطه، مثل قصة الغاز المصري، أو وباء الكورونا، فإن (اللا – فعل) يصبح المساحة الآمنة للمسؤول الذي ستحاوطه الانتقادات والتشكيكات وأحيانًا التطاول في مواقع التواصل التي تعد ضغطًا إضافيًا على المسؤول الذي يعيش تجربته السياسية بوصفها (مَهمة) لا (مسيرة).
أصبحت السلبية واستهلاك الوقت في اجراءات تجسيرية أو تكميلية نمطًا سائدًا خلال السنوات الأخيرة، فالرياح يمكن أن تأتي بما لا تشتهي السفن على الجانب الموضوعي، والإيجابية أصبحت مكلفة وسط حالة عدم الرضا المتفشية والدخول العمومي في فضفضة لا تستوعبها بيئة سياسية.
يمكن للتحديث السياسي أن يعمل على التخفيف من السلبية لأنه سيشكل منظومة سياسية تستطيع أن تتعامل مع المشكلة المتعلقة بالجانب (الذاتي) عندما تنشأ فكرة الطيف السياسي مقابل التجربة الشخصية التكنوقراطية، وتحمل تكلفة القرار في مواجهة الجانب (الموضوعي) من خلال وجود فكرة الخيارات العامة التي ستجعل مسألة الرضا أو عدم الرضا مجرد أثر جانبي لتدابير المصلحة العامة، والتي على الرغم من كل شيء، وتحت إضاءة متواصلة على مدار الساعة، كانت تعمل بصورة معقولة قياسًا بمستويات الدول المتقدمة، ومتميزة قياسًا بالطرق الفرعية التي أخذت بعضًا من الدول الشقيقة.