جفرا نيوز -
محمود كريشان
شجرة بلوط عمرها الدهر، تتربع في ذاكرتنا، تتجذّر في ضمائرنا، تحمل في شموخها صورة وصفي التل، الذي لامست بصمات عطائه جغرافيا الوطن، بتفاصيله كافة.. وصفي الملتصق بالارض والمرتبط بها عملا وعشقا، وهو الذي قال في ذات زمن جميل: من يحب الارض، يحب الوطن، فقد كان يعمل بيده كما قال سائقه محسن السرحان ، بأن الشهيد كان يحرص كل الحرص ان يجلس مع العمال، يساعدهم، ينكش بفأسه أشجار بيته في الكمالية، ويقنب سيقانها وغصونها.. كان يرتدي (فوتيكه) الكاكي المضمخ بتراب الأرض الطيبة، يمسح أول الندى عن أوراقها في ساعات الصباح الاولى، ربما ليعطي درسه ان الشخص مهما كبر منصبه وموقعه فهو عامل للأرض والوطن.. ولأن المنصب كان في عرفه وسيلة لخدمة الناس لا التعالي عليهم.. لذلك كان «ابن الحراثين» أسطورة وطنية ومدرسة خالدة، في العمل والانتماء المصحوب بالإنجاز.
وتنهض هنا ذاكرة نبيل صالح شقير أحد اليساريين القدامى الذي قال لـ»الدستور» ان الشهيد وصفي التل هو أول من أقر ان يكون عيد العمال عطلة رسمية في نهاية الستينيات من القرن الماضي، حيث كان اليسار له حضوره في تلك الحقبة، وكان الجميع يحتفل بالعيد وتلقى الخطب، وكان التل يحرص على مشاركة العمال احتفالاتهم ويعمل معهم وأكثر ما كان يسعده ان يقوم بزراعة الأرض مع العمال.
نستذكر وصفي التل الذي كان من العمال وإليهم، فهو الذي يحب من يعمل، وكان التربوي البارز والإعلامي العريق المرحوم عبدالمنعم أبوطوق قد قال: دخل «وصفي» في ذات زمن، لتفقد مرافق مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، فدخل الى دورة المياه، ليجد ان أطراف أرضية البلاط فيها شيء من السواد، فقال للعامل لماذا لم تنظفها؟.. ليرد العامل انه حاول لكنها بقيت.. فما كان من وصفي إلا ان شمر عن ساعديه، وتناول فرشاة يدوية خشنة، بعد ان سكب الماء والمنظف فوق البلاط، وأصبح يمسح البلاط بشدة، ثم سكب الماء عليه، وقال للعامل هاهو البلاط رجع أبيض «بيوج وج».. بس إنت مابدك تتعب بشغلك يا إبني!.
وصفي كان الداعم القوي لمن كان يسميهم «أبناء الحرّاثين» وهم البسطاء من أبناء الريف الذين يذكرون جيدا كيف وقف إلى جانب الفلاح، ودعم الحفاظ على الرقعة الزراعية، وكيف كان يحدث الفلاحين بلسانهم البسيط وبطبيعته الإربدية النقية، ويجالس القرويين على أبواب دكاكينهم.. وهو الذي كان يحرص على زيارة صغار المزارعين في مواقع عملهم، يناقشهم ويستمع لهمومهم ومطالبهم.. بل انه يرشدهم في كيفية زراعة محصولهم، فهو ابن الأرض الذي يعرف انها تعطي من يعطيها.
وصفي التل يعرف تفاصيل الديرة الأردنية، وهنا اتذكر أحد أبناء مدينة معان المرحوم «أبويوسف الطحان» الذي قال لكاتب هذه السطور قبل وفاته، انه وخلال خدمته العسكرية في الجيش العربي بإحدى مقاطعات نابلس، قام رئيس الوزراء/ وزير الدفاع «انذاك» وصفي التل بزيارة مفاجئة الى الكتيبة، وقال الطحان: عندما جلس معنا ذهبت لإعداد الشاي للضيف، ولأن الضيف عزيز، أردت ان يكون الشاي مميزا، لذلك أخرجت من صندوقي «نعنعا» معانيا ناشفا، ووضعته فوق الشاي، الذي حرصت ان أعده على الطريقة المعانية «خفيف وسكر زيادة»، وعندما ارتشف التل الرشفة الأولى من كباية الشاي تنهد وقال أمام الجميع «والله إنه شاي معاني»... وكانت ولا تزال معان تشتهر بنكهة نعنعها.. هذا «وصفي» الذي يعرف ماذا تنتج أرض كل محافظة وقرية أردنية من مزروعات.. فهو ابن الناس القريب من كل الناس.
الدستور