جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم د. خلف الطاهات
بمصادقة جلالة الملك على قانون الجرائم الالكترونیة یطوي الأردن مرحلة بائسة وعقیمھ من الفوضى في التعبیر والتناحر الافتراضي، لینقلنا الى فضاءات جدیدة ومساحات أوسع من مفاھیم تُكرس المسؤولیة وحق التعبیر المنضبط والنقد البناء القائم على احترام الفكرة بعیدا عن الشخصنة.
لا نقلل من حجم الجدل وحالة التخوف من تقیید الحریات الذي رافق مناقشات مواد قانون الجرائم الالكترونیة وخاصة العقوبات المغلظة، وھي عقوبات صادمة بعض الشيء باعتبار ان مجتمعنا الأردني غیر معتاد على ھذا الحجم في التغلیظ لجھة فترات الحبس او الغرامات المادیة. لكن الرسالة الاكیدة من ھذه العقوبات تشي بحجم "جدیة" الدولة للمضي قدما ودونما تردد، وبمعزل عن أي موقف او محاولة ضغط خارجي كما تابعنا من بیان الخارجیة الامریكیة، بان حمایة الانسان الأردني وتوفیر بیئة افتراضیة "آمنة" ھي واجب الدولة من كل الجرائم المستحدثة التي لمسنا تطورھا في الآونة الأخیرة من خطاب كراھیة، وتنمر الكتروني، وتجنید الكتروني، وانتھاك خصوصیة، واغتیال شخصیة، وابتزاز وغیرھا من مستحدثات ھذا العالم الافتراضي والتكنولوجي الذي یستدعي أیضا دینامیكیة تشریعیة تواكب كل مستجد وتطور وھو ما فعلتھ مؤسسات الدولة دون ان یھتز لھا جفن.
لا یوجد حریة تعبیر مطلقة وھذا من ابجدیات العمل الصحفي والإعلامي، فالحریة المطلقة مفسدة مطلقة، وحتى أعتى الدیمقراطیات في العالم ھناك دوما ضوابط مسؤولیة في النشر، وھنا لا نتحدث عن أردن یقع جارا لسویسرا او فنلندا، حتى أمریكا الدیمقراطیة والتي یحكمھا الدیمقراطیین یحاكمون الیوم رئیسھم الأسبق ترامب على ما سببھ من استخدامھ اللامسؤل والمنفلت عبر منصات التواصل الاجتماعي للسلم المجتمعي الأمریكي، وھي محاكمات بحسب قانونین قد تفضي الى الحیلولة دون وصولھ للبیت الأبیض!!
صحیح تأخرت الدولة في إعادة ضبط الفلتان وإعادة السیطرة على الراي العام المتلاعب بھ والفالت، وتحملت ما تحملتھ من نھش لمؤسساتھا وتشكیك متعمد لأدوارھا ومواقفھا الثابتة، وظلت الأصوات النباحة خارج الوطن تنھش ھنا وتنشر الاشاعات وتفبرك الروایات ھناك، ناھیك عن الوصولیین المتسلقین الذین ركبوا كل موجھ لتعزیز مكاسبھم وحظوتھم باسم الغلابى والمساكین، وغیرھا من القصص التي عایشناھا في كل ازمة تضرب ھنا او قضیة یتم نفخھا متعمدا ھناك. لكننا الیوم امام مرحلة جدیدة ستفسح المجال فقط للأصوات العاقلة ان تصدح، والنخب التي تمتلك المنطق و قوة الفكرة ان تتصدر المشھد، وسیوفر ھذا القانون مساحة اكبر للمسؤول ان یشتبك مع المجتمع دون تنمر، وستحد من انتشار الاشاعات الھدامة، وسیركز جھود اجھزتنا الأمنیة لإیلاء ملفات اكثر أھمیة من إطفاء نار الكراھیة والتباغض المجتمعي، وسیؤسس لمرحلة من الحوار الجاد والمسؤول في القضایا العامة بعیدا عن الاتھامیة والاستقطابات والفرز الاعتباطي، وسیختفي بلا رجعة دعاة الفتاوي والخبراء الذین یتنطعون بكل موقف وكل قضیة ویفتون بكل شاردة وواردة، تجده حینا خبیرا في الملف النووي الإیراني، وبعد لحظات محللا سیاسا في التقارب السعودي الایراني، وباقل من ساعة یلبس ثوب العظة والعفة ویفسر آیات قرآنیة، وما ان یتناول وجبة طعامھ حتى یصبح عالما في الامن الغذائي، وھكذا یعیش في دوامة والقاب الفتاوي والخبراء الواھمین.
لیس ھذا فحسب، في ظني ان القانون الجدید أیضا سیقزم ابطال الدیجتال من الشعوبیین الذین یبحثون عن أي جنازة في أي بقعة من الوطن لیشبعوا لطما فیھا، وسیعید تعریف المفاھیم التي تعلمناھا وتربینا علیھا، فلن یصبح بعد قانون الیوم الر ّداح بطلا، ولا الشتّام منقذا للوطن، ولا النّباح ھناك حیث یقبع خارج حدود الوطن تاجرا یبیع بضاعة الاشاعة والتدلیس لیجني أرباحا من قصص التلفیق والابتزاز.
واجب الدولة ان توفر مساحات "آمنة" لمواطنیھا عبر ھذا الفضاء الالكتروني الرحب والذي أصبح منذ سنوات ساحة حرب مفتوحة للاغتیالات الشخصیة والابتزاز وانتھاك الخصوصیة، وواجب الدولة ان تحمي الراي العام المحلي من محاولات اختطافھ، وقد حصل في السابق في أكثر من موقف، كما في قانون ضریبة الدخل وقضیة الفتنة عبر ذبابا الكتروني صدیق!! الدولة الواعیة المتسامحة وھو حال مملكتنا الھاشمیة، لا تمنع مواطنا من نقد أي مسؤول اخطأ ولا یضیق صدرھا عند نقد أداء أي مؤسسة وطنیة قصرت ھنا او ھناك، لكن شتان بین نقد الأداء والأفكار وبین شخصنة الأمور..فالأولى قوة للدولة لا بل مطلوب وبشدة النقد الموضوعي للأداء العام، اما الثانیة فتحتاج الى تربیة قانونیة تضع كل من یتنطح للفضاء الافتراضي امام مسؤولیاتھ عن كل اتھام او تجریح یصدر عنھ او منھ.
نعم اغلبنا في مرحلة الصدمة الان، لكن الوقت قد حان لإعادة تنظیم وضبط الفضاء الالكتروني، وازعم ان مؤسسات الدولة نجحت في تحقیق الرسالة من ھذا القانون قبل حتى ان یدخل حیز التنفیذ، فالیوم بمتابعة المشھد الافتراضي الأردني، نجد كثیرا من المستخدمین یروجون استباقیا لأبرز نصوصھ، ویحذرون بقیة المستخدمین من مغبة عدم الانتقاء المناسب للكلمات وما ھو قانوني وما ھو غیر قانوني..وھكذا انطلقت حملة إعلامیة توعویة للقانون قبل ان تبذل الحكومة أي جھدا منظما، وھذا بحد ذاتھ انتصارا كبیرا للثقافة القانونیة، فأھلا وسھلا بفضاء أردني یطوي الفوضى ویوقف التناحر ویحترم النقد البناء.