جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي
بعد أن دخلتُ الكتابة الصحفية اليومية من بوابة الأدب؛ اقترح عليّ صديق آلمهُ ما سأكابده من مخاضات تخرمش الروح وتجرّحها في ولادة مقالة لربما تتيسر حينا، وتتعسر أحياناً، اقترح أن أحبسَ نفسي يوم السبت؛ لأعدّ مقالاتي الخمس المطلوبة دفعة واحدة، ثم استريح متفرغاً للقراءة والموسيقي وجنون التحليق، على حدّ قوله. ثم نظر في عينيّ صارخاً بأني مجرم حقيقي، إذ كيف أطعم روحي لمحرقة الصحافة الشرهة. عندها هززت رأسي متمتماً، بأن اقتراحه مقنع نظريا إلا أن القارئ لا يقبل منا خبزا بائتا جافرا. الصحافة أدب في النهاية، لكنها أدب مختلف تماما. هي أدب اللحظة بشتى أطيافها وأخلافها.
تذكرت هذه النصيحة في معرض حديثنا عن كاتب بات يصدر رواية أو روايتين في العام. أحد الأصدقاء يتوقع أنه يستعين بالذكاء الاصطناعي لإنتاج هذا القطيع من كتابات كلها بذات النكهة والملمس واللون والجفاف، وقال آخر، وهو كاتب صحفي يومي بأنه لا يستبعد الحالة، بل وأسر لنا بأنه يفكر جديا في جعل الذكاء الاصطناعي وتحديدا برنامج (تشات جي بي تي) بديلا عنه في دنيا الكتابة، فعالمنا حسبما يرى لم يعد يحتاج كثيرا من مشاعرنا الجياشة كما نتوهم.
تسرد لنا الأساطير اليونانية أن النحات البارع «بجماليون» وبعد أن فرغ من نحت تمثال لامرأة بارعة الجمال هام به وعشقه، وابتهل إلى الأسياد أن تهبه امرأة بجمال تمثاله ليتزوجها، فاستجابوا مقدمين له أفضل مما طلب، فقد بثّوا نسغا من الحياة في أوصال التمثال، وكان اسمه جالاتيا، أي امرأة ببياض الحليب، فتزوجها فرحا، لكن أيامه انقلبت بصلا بعد أيام من عسل يسير، فتوسل أن تعود تمثالا حطمه ما أن انسحبت الحياة من عينيه.
لربما أن حياتنا تحتمل أن نوكل كثيرا من المهام الصعبة أو الدقيقة أو الخطرة للذكاء الاصطناعي والريبوتات لتنوب عنا فيها، كالحروب ومقارعة الأمراض والكروب، إلا أن الكتابة الحقيقية برأيي ستظل شيئا آخر عصيا على الخوارزميات والبرمجيات والريبوتات وبرنامج تشات جي بي تي. هي روح منا حين ندفقها من رؤوس أصابعنا في الأقلام أو الأزرار أو الشاشات. هي شيء آخر تماما. هي نحن بكل ضحكاتنا ودموعنا حين نتنضّد حروفا مقروءة أو ألوانا مرئية أو أنغاما مسكوبة من وتر كالشريان.
وستبقى الكتابة الريبوتية معلبة بمواد حافظة وألوان باهتة وتاريخ انتهاء مزيف. هي لن تشبه إلا تمثال بجماليون الذي سنكتشف فداحة جفافه قبل أن نتوسل أن تنسحب منه كهرباء الحياة؛ كي نهوي عليه بمعاول الحياة.