النسخة الكاملة

الغوص إلى تايتنك مرة أخرى

الخميس-2023-07-05 10:00 am
جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي

هل يمكن لقصة حب عابرة أن تحيي معها كماً هائلاً من القصص التي تغيب عن مخيال الكتاب والمخرجين وعموم الناس. وهل من الممكن لقصة حب سريعة هامشية أن تنتشل باخرة شُطرت نصفين في قعر المحيط، وتجعلنا نتخبط معها في بارد الماء، كركابها المستغيثين في برزخ بعيد بين موت وموت.  

بعد انفجار الغواصة التي أرادت زيارة الباخرة الغارقة تايتنك في أعماق المحيط عدت من جديد وشاهدت الفيلم الشهير الذي مر ربع قرن على إخراجه. في هذا المرة تركت التحديق في سريع ماء عند مقدمة الباخرة، وتجاوزت عن ملاحقة الدلافين التي تسابقنا بعنفوان، ونزلت مباشرة إلى الذين لم يستحقوا من المخرج، إلا لحظة عابرة وخاطفة.

نزلت بكامل قلبي إلى الذين كانوا يعيشون أصعب الظروف وأشقها، إلى الرجال الذين كانوا يُلقمون المراجل الحارقة بالفحم الحجري، كي تنطلق تايتنك بكل غرور وتيه. وكتبتُ على جدار صقيل بالفحم المبلل: كم قصة نحتاج، وكم فيلماً كي نبيّض حياة وأحلام هؤلاء المنسيين. تايتنك تشبهنا، وتشبه حياة البشر عموماً، حين يغور الكثيرون من البسطاء في سواد التغييب والتهميش والتطنيش، مع أنهم مرجل الحياة، ووقودها.

هل كنا نعلم أنه من بين 144 سيدة من الدرجة الأولى، غرقت أربع سيدات فقط، والبقية ظللن في قوارب قابلة لحمل المزيد من المستغيثين. لكن (الإتكيت) والبرستيج لم يسمحا لبنات ماري أنطوانيت وأخواتها، أن يعدن إلى رجالهن الآيلين للغرق والتجمد. كم أوجعني المشهد الذي لم أنتبه له بكل تحديق في مشاهدة سابقة. فلماذا أيتها الباذخات؟!.

ولو أن مخرجاً فذاً، ومعه كاتب ألمعي وجدا منتجاً لا يحسب حساب الملايين، لصنعا فيلماً لقصة بعض العرب الحالمين الذي لم يمنحهم مخرج تايتنك إلا بضعة ثواني كانت كافية لتصنفهم بأنهم بشر متخلفون غرقوا دون أن يذكروا. لو توفر كاتب وخرج فلربما سيكون لدينا فيلم حاشد بالحياة، ونبضات الأمل، والتوق لمكان بعيد.  

(إنهم على العشاء أيضا لا يسمعون موسيقانا). هذا العبارة الواخزة الحزينة قالها عازف الكمان المبدع لرفاقه في الجوقة الموسيقية، قبل غرق تايتنك بدقائق. حينما طلبوا منه أن يتوقف عن العزف، لأن الناس منشغلون بالموت وبؤرة النجاة. ولكنه ظل يعزف مندغماً بألحانه ويعيشها.

سيقول قائل: لقد بُني الفيلم على قصة عجوز خرفة، تجاوزت المئة عام، وعلى حكايتها العابرة مع شخص ليس له اسم، ولم يدرج في سجلات الباخرة، ولم يسمع به أحد. وسأقول: هنا تتجلى قوة الفن، الذي لا يُبنى إلا على مرايا الحلم، ولا ينبت إلا من بذار الخيال، وشطحات جنونه.
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير