النسخة الكاملة

التراث الثقافي وتغير المناخ في COP26

الخميس-2021-11-01 04:05 pm
جفرا نيوز -

جفرا نيوز - بقلم: سمو الأميرة دانا فراس
سفير اليونسكو للنوايا الحسنة للتراث الثقافي ورئيس الجمعية الوطنية للمحافظة على البترا

في عام 2015 وهو العام الذي وقع فيه قادة العالم اتفاق باريس والتزموا بأهداف التنمية المستدامة، قمت بالدعوة إلى اعتماد هدف ثامن عشر لأهداف التنمية المستدامة بشأن الثقافة والتراث. لقد فعلت ذلك لإيماني بأن أي عمل هادف لتحسين حياة البشر وبيئتهم الطبيعية يتطلب استراتيجيات قائمة على الثقافة.
بعد ست سنوات، وخلال هذا الاجتماع لقادة العالم والنشطاء والخبراء في COP26 في غلاسكو ، سأقوم مرة أخرى بتوجيه هذه الدعوة العاجلة وسأضم صوتي إلى نشطاء آخرين لإطلاق حملة شبكة التراث المناخي "السباق نحو التكيف والمرونة". لكننا هذه المرة نقف معًا في اعتراف بالدور المتكامل الذي تلعبه الثقافة والتراث والفنون في تطوير عمل مستدام ودائم وحقيقي بشأن تغير المناخ.
وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، اليونسكو، يشمل مصطلح التراث الثقافي "التراث الثقافي المادي" مقسمًا إلى ثلاث فئات: الأصول الثابتة، والتي تشمل المعالم والمواقع الأثرية؛ الأصول المنقولة، بما في ذلك اللوحات والمنحوتات والعملات والمخطوطات؛ والأصول تحت الماء بما في ذلك حطام السفن والأطلال والمدن المغمورة تحت المياه. بالإضافة إلى ذلك، يشمل التراث الثقافي أيضًا "التراث الثقافي غير المادي". وهذا يشمل التقاليد الشفوية والفنون الأدائية والطقوس وكذلك المعرفة المستمدة من تطوير وخبرة الممارسات البشرية والتمثيلات والتعبيرات والمعرفة والمهارات.
يوجد في الأردن أكثر من 100000 معلم أثري ونحو 15500 موقع موثق ومسجل رسميًا، بالإضافة إلى تراث ثقافي غير مادي غني ومتنوع. 
تسهم هذه الثروة التراثية الثقافية إسهاما حقيقيا وأساسيا في تحقيق الأهداف الاقتصادية والتنموية للأردن من خلال السياحة (التي شكلت وحدها 15٪ من الناتج المحلي الإجمالي للأردن في عام 2019) والخدمات والحرف اليدوية والصناعات الثقافية (المتاحف والفنون والموسيقى وإنتاج الأفلام ، وغيرها). كما أنها أيضا تعد مكونات للقيم الوطنية والهوية والتماسك الاجتماعي.
لا يؤثر تغير المناخ على المواقع الأثرية (المادية) التي يشملها تعريف التراث الثقافي فحسب، بل يؤثر أيضًا على العلاقة التي تربط البشر بهذه الأماكن وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وكل ذلك أساسي ومتعلق بشكل مباشر بقدرتنا على التخفيف من تغير المناخ والتكيف معه.
لقد خلص المجلس العالمي للمعالم والمواقع إلى أن "تغير المناخ أصبح أحد أبرز وأسرع التهديدات تناميا للناس وتراثهم الثقافي في جميع أنحاء العالم". فستؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى إتلاف التشكيلات الصخرية الهشة، وخاصة الحجر الرملي الذي نحتت منه آثار البتراء. كما ستلحق الظواهر المناخية القاسية أضرارًا كبيرة بالمواقع الأثرية والتراث العمراني بما في ذلك المخطوطات والتحف الموجودة في بعضها. كما وسيؤدي التبخر المتزايد إلى تغيير مستويات الرطوبة ويؤثر سلبا على مواقع مثل قصير عمرة والبتراء والكنائس في شمال الأردن حيث ستعاني اللوحات الجدارية من التآكل والعفن والأضرار الناجمة عن الملوحة. بالإضافة إلى أضرار على التراث الثقافي لا يمكن إصلاحها في كثير من الأحيان تنتج عن الحرائق الناجمة عن تغير المناخ والرياح وتقلص الغابات والنباتات في معدلات هطول الأمطار والفيضانات وظواهر الطقس شديدة الأثر.
وعلى صعيد مواز، فإن التراث الثقافي غير المادي ليس بمعزل عن الضرر الناجم عن تغير المناخ، فانحسار الغطاء النباتي والأنواع النباتية والحيوانية واختفاؤها سيقود إلى تغيير في الممارسات الثقافية والتقليدية الهامة، وبالتالي إلى تغيير على نظام الغذاء ومهارات الطهي التقليدية والأعشاب الطبية والتقاليد المرتبطة بها، والأهم من ذلك كله الضرر المؤدي إلى فقدان الأمن الغذائي.
يؤدي الضرر والخسارة الناجمان عن تغير المناخ إلى تغيير في علاقات الناس بعضهم ببعض، وعلاقتهم مع الأرض والأماكن التي تشكل هويتهم، مما يتسبب في حدوث تطورات وتغيرات في معنى الهوية والقيم، وفقدان القصص والطقوس والتقاليد التراثية التي لن يعود لها موطئ قدم في مشهدها الطبيعي والثقافي المألوف.
علاوة على ذلك، فمن المتوقع أن تأثيرات تغير المناخ ستؤدي إلى ازدياد الهجرة والتنقلات البشرية على مستوى العالم. 
ففي الأردن، ستولد هذه الهجرات ضغطا أكبر على المناطق الحضرية المكتظة بالسكان أصلا، حيث سيزداد عدد سكانها مما يزيد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية طرديا على نظام اجتماعي مرهق بسبب الهجرات الإقليمية المتعددة.
في نهاية المطاف، سيؤثر تغير المناخ على حياة الناس وسبل عيشهم وطريقة حياتهم ككل والتي ستعيد بالتالي تشكيل الاقتصادات والمجتمعات والمشهد الطبيعي.
وبالمثل، فلن تكتمل جهودنا للتخفيف من أثر تغير المناخ والصمود أمامه دون النظر إلى التراث الثقافي. فنحن لسنا بحاجة إلى الثقافة والتراث والفنون من أجل البقاء فقط، بل وأيضًا من أجل الازدهار بالرغم من حقيقة تغير المناخ. يكمن مفتاح ذلك كله في بناء المرونة، والتي تشمل القدرة على التحول والقدرة على الاستمرار والقدرة على التكيف.
الثقافة والتراث والفنون هي مفتاح لكل المكونات الثلاثة للصمود والقدرة على التكيف. حيث تفتح الاستراتيجيات القائمة على الثقافة آفاقا مبنية على النظم التقليدية للتماسك الاجتماعي والقوة المجتمعية لتمكين الناس من التعامل مع الإجهاد والتغيير. وترتكز هذه الاستراتيجيات على القيم الموروثة النابعة من الثقة الراسخة والشبكات الاجتماعية القوية والعلاقة القوية بالمكان. وكل هذا ضروري لتكاتف المجتمعات وصمودها وقت التحديات.
تركز الاستراتيجيات القائمة على الثقافة على المعارف المحلية والتقليدية والأصيلة المهمة والتي هي، مع الأسف، مغيبة وغير معروفة في كثير من الأحيان. وتشمل هذه المعارف التقنيات التقليدية، بما في ذلك الابتكار من خلال الممارسة والتكيف. حيث تدرك مثل هذه الاستراتيجيات مبدأ العيش القائم على الموارد، والاستخدام التقليدي للبر والبحر من أجل العيش بأسلوب مستدام.  
إن الأنظمة الهيدرولوجية القديمة للأنباط، على سبيل المثال، تحمل دروسًا لا تقدر بثمن لنهجنا في حصاد المياه وجمعها وتوزيعها واستخدامها. وهناك العديد من الدروس التي يمكن تعلمها من ممارسات البناء التقليدية، واستخدام المواد، والتقنيات الزراعية وغيرها الكثير.
نحن نعلم الآن أن أي جهد ناجح في عمل حقيقي يهدف إلى التغيير سيتطلب تحولًا عالميًا وعلى مستوى المجتمع بأسره ويتم تنفيذه على جميع المستويات. إلا أنه ليس بالإمكان تحقيق هذه المشاركة والتوافق المجتمعيين إلا عندما يتم فهم كينونة هذه المجتمعات بشكل حقيقي والاعتراف بها لما هي عليه. 
تدمج الاستراتيجيات القائمة على الثقافة وجهات نظر عالمية فريدة ومتنوعة وأنظمة ومعتقدات وطقوس ذات صلة، ومواقع طبيعية مقدسة، وأساطير، وروحانيات، ولغات وقيم متعددة. حيث توفر الثقافة القدرة على بناء الحوار والتبادل الثقافي، مما يعزز الترابط، ويؤكد على التعلم التكيفي، بما في ذلك دور الإبداع والإلهام في التكيف والابتكار.
نحن نتوقع ونلتمس الحاجة إلى اتخاذ تدابير عاجلة وسريعة وبعيدة المدى ونعلم أن التغيير صعب وقد لا ينصف البعض في كثير من الأحيان. 
فالثقافة تجسد بداخلها صفة غير ملموسة تظل حاسمة لرفاهية الإنسان وسلامه الفكري. إنها احتفال بالجمال والتاريخ والتواصل البشري، وهي تحدد طابعنا الوطني وما يعبر عنه. 
في جهودنا الجماعية لبدء عملية التطور والتحول في أنماط الإنتاج والاستهلاك وأنماط حياتنا، فإن طابعنا الوطني مهم ويعني الكثير، فهو الرابط القوي الذي يربط مجتمعاتنا معًا وصوت واحد يذكرنا مرارا بأننا نفعل ذلك من أجلنا ومن أجل الأجيال القادمة.