جفرا نيوز -
جفرا نيوز/ بقلم: المحامي معن عبد اللطيف العواملة
بصمت و مهابه، رحل عبد اللطيف العواملة عن الدنيا. خاض معركته الاخيرة و ترجل، بعد رحلة مليئة بالاحداث و التحديات و الانجازات. مسيرة شاهدة على ابرز معالم الاردن منذ الاربعينيات. رحل تاركا خلفه ارثا عميقا من اخلاق الفرسان. فقد كان رحمه الله مسؤولا و ابا و اخا و صديقا، و رجل دولة من طراز فريد.
عاش رحمه الله تجربة مميزة، عاصرت مراحل مفصلية من تاريخ الاردن، صقلت شخصيته و كونت هويته. ولد في عين الباشا في عام 1942. ترعرع في حياة ريفية، و لكنها متشبعة بالمدنية لقربها من العاصمة اولا، و للعلاقات الواسعة التي كانت لوالده في عمان و السلط، و التي ضمنت لليافع انذاك اطلاعا مبكرا على التنوع الثقافي و الديني و العرقي الذي ميز الاردن.
تعليمه الاولي كان في التعليم الكنسي في صافوط، ثم انطلق نحو مدرسة رغدان حيث تعرف الى العديد من قيادات الاردن المستقبلية، و كون صداقات عابرة للمراحل، و هناك ايضا تشرب معنى رسالة الاردن في اقليمه و عالمه. عايش تطور عمان منذ الخمسينات، و تمرس كشاب في معرفة عائلات الاردن و عشائرها و احزابها و شخصياتها، مما شكل لديه وعيا مبكرا بالحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية.
في عام 1962 بدأ دراسة الحقوق في دمشق. و كانت تلك تجربة ثرية في زمنها حيث الحياة السياسية الحافلة بالتغيرات و بالمد القومي و الناصري و الشيوعي و البعثي و الفدائي و ما تخللها من احداث جسام. كان لديه نهم للدراسة و القراءه و للتواصل مع اطياف اللون السياسي، و مع ذلك بقي مستقلا في رأيه و انتمائه مفضلا الاطلاع على التوجهات الحزبية و فهم ابعادها من غير الانضمام اليها. ادرك في شبابه انها مرحلة شائكة من التاريخ العربي، حيث كانت فلسطين مركز البوصلة تحاول جميع الاطراف ان تسعى اليها و لكن من غير ان تصلها.
عاد الى عمان حاملا ليسانس الحقوق ليبدأ رحلة البحث عن عمل في سلك القضاء حتى قادته الصدفة الى دائرة المخابرات العامة ليلتحق بها كضابط برتبه ملازم أول و يبدأ رحلة ثلاثون عاما من العمل الامني المحترف مديرآ لمخابرات سبعة محافظات اردنية انتهاءا بعمان. تخلل ذلك عامين من الاعارة الى سلطنة عمان في بداية السبعينيات ليعمل مديرآ لمخابرات مسقط . في عام 1996 تقدم بطلب احالته على التقاعد فتم ذلك و هو برتبة لواء. حصل المرحوم على العديد من الاوسمة كان اخرها وسام المئوية لدوره و تميزه في الحفاظ على الامن الوطني قلده اياه جلالة الملك عبد الله الثاني اطال الله في عمره.
خلال مسيرته المهنية تعمقت معرفة المرحوم بالاردن و طبيعة تكوينه. فكما افاد عمله من خبراته الحياتية و التعليمية السابقة، فقد استفاد ايضا من عمله في الاحتكاك بمكنون الاردن و هويته. ابقى على تواصله المتين مع المجتمع من خلال مكتب المحاماة الذي افتتحه في عام 1996. و بدا ايضا في الكتابة الصحفية و استمر فيها الى ما قبل وفاته بايام معدودة. استعرضت كتاباته الاردن و رسالته، و كذلك استشرفت المستقبل. وصفه اعلامي مميز «بالرجل العتيق صاحب القلم الرشيق».
ترك المرحوم ابا رائد ارثا كبيرا لعائلته و لاصدقائه و محبيه. كان مجبولا على الايثار و الوفاء و النبل، مع الجرأة و الانضباط. كان حازما في المبادىء، مرنا في الاسلوب، عنيدا في احقاق العدل، معتدلا في تنفيذه. استخدم رحمه الله اسلوب القصة في ايصال رسائله، فقد كانت ذاكرته تزخر بالوقائع الشاهده على الاردن و رجالاته، و قد حضر بنفسه الكثير منها. كان امينا في روايته، يذكر المناقب للجميع بغض النظر عن موقفه منهم. اخلاق الفارس كانت نبراسه في السراء و الضراء، عرف شرف الخصومة و وفاء الصداقة.
في مقال كتبه قبل عدة اعوام بعنوان «انا الاردن» قال رحمه الله: « الاردن يعرف من هو و هذا ما يميزه عن محيطه. الاردن متنوع الخلفيات و الثقافات، منفتح، وسطي، انساني الانتماء، عروبي المرجعية، مدني الحكم، و عالمي التوجه. الاردن منسجم مع ذاته و لا يعاني من العقد، ليس لديه ما يخفيه او يخاف منه، لا يعتدي و لا يتأمر، و يدرك مهالك الافراط و و مأسي التفريط. نحن بلد يحب الخير و السلام للعالم اجمع.»
رحمك الله يا عامود البيت يا بوي . عشت كبيرا و رحلت كبيرا. ارثك عابق بالمواقف و العبر، و سيرتك تعيش بيننا و فينا، فالكبار لا يموتون