النسخة الكاملة

قلم «عايشة»

الخميس-2021-10-06 10:13 am
جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم عامر طهبوب - أنجبت «عايشة»، وهو اسم «نشمية» في قصة حقيقية، ما يزيد عن أصابع اليدين من أولاد وبنات، من «كريم»؛ وهو اسم مستعار لزوج كريم؛ مزارع وصاحب أغنام وحقل. لم تكن الحياة سهلة. امرأة حقيقية، كما كان زوجها رجلاً حقيقياً. علمتني الحياة أن هناك رجلاً حقيقياً، وامرأة حقيقية، وأن هناك رجلاً زائفاً مدعياً، وامرأة باهتة مدّعية.

 ذكراً يدّعي الرجولة، وامرأة تدعي الأنوثة، والرجولة ليست الفحولة، كما الأنوثة لا تعني فقط الرقة. المسألة معقدة، ولها علاقة بالتربية والتنشئة، والكروموزومات، والجينات، والبيئة التي تبدأ من الوالدين، وتنتهي بالمحيط الذي ينشأ فيه الإنسان، فيكون رجلاً، أو يعيش عمره ذكراً خالياً من معاني الرجولة، وتكون هي ما تكون، لكنها باهتة فاقدة للجاذبية الأرضية، إلا «عايشة».
كانت عندما تخضّ الخضة الأولى من خضيضها، تخصصها لأبناء القرية من أؤلئك الذين لا يمتلكون ماشية. لا تسمح لولدها بالخروج بقطعة حلوى ليأكلها في الحي، خوفاً من أن يشتهيها طفل لا يمتلك أهله القدرة على تأمينها. تقول لولدها: لو كان عندي ما يكفي لإطعام أولاد الحارة، لسمحت لك بالخروج بها.

فتحت بيتها لضيوف الرحمن وأحباب الله؛ ينامون في بيتها مع أولادها لعدة ليال، تقدم الطعام لأبناء مدرسة القرية. يقصدها المرضى لترقيهم، وكان الله يأخذ بيدها فيشفيهم. تصحو عند الفجر، تصلي، وتهتم بأسرتها، أولادها، وبناتها، وأولاد الحارة، وكل من يطرق بابها، تعجن، تخبز على الطابون، تزرع، وتغرس، وتحصد، وتطبخ.

«عايشة» شيخة لم تطلب مشيخة، وإنما رضا الله. كان طلبة الثانوية العامة يطلبون منها أقلاماً لاستخدامها في امتحاناتهم. قلم «عايشة» مباركاً. اشترى أحد أبناء القرية سيارة جديدة، فتوجه إليها طالباً القليل من حر مالها، ليضع بنزين في سيارته حتى يتبارك، وحتى يجنبه الله الأذى على الطريق.

هل تصدقون أن هذا النوع من النساء يختفي الآن؟ طلب أحدهم كأس ماء من أحد رجال القرية، فقدم له كأساً غير مملوء، فنظر الرجل إليه وقال: والله لو طلبت من عايشة بنت فلان، أن تضع لي في هذا الكأس سمناً، لملأته حتى عنقه. يخرج أبناء القرية لقضاء حوائجهم عند الصباح، فيرددون: «يا فتاح يا عليم، يا حظ عايشة وكريم». إنهم يؤمنون بأن الله يحب هذين الزوجين.
لم تكن «عايشة» درويشة، لا، كانت محبة للحياة ولإنسانها، متسامحة ومتصالحة مع ذاتها؛عاشت عمرها أمّا للمحتاجين في بيت بسيط مكون من غرفة معيشة، ومكوناتها، ويحتوي على «قطوع»، وحوامل هي عبارة عن مربعات من الطين لحفظ الأواني، كما يحتوي على «روشن» لترتيب الفرشات والأغطية، وصندوق للخزين، و»كواره» تضع فيها الطحين والقمح والشعير. بالطبع فإن البيت يحتوي على غرفة للضيوف، وإلا كيف كانت تأوي أصحاب الحاجة والملهوفين، وفي البيت «ليوان» لاستقبال الضيوف، يستخدم في الشتاء لإيواء الأغنام أيضاً، و»حوش» يحتوي على «الطابون» وزرب للدجاج، وقسم للماعز، وآخر للأغنام، ومكان للراعي.

«عايشة» امرأة منتجة، تعمل ليلاً نهاراً في مساعدة زوجها لإنتاج الحليب والجميد والسمن البلدي، وهو إضافة إلى الزراعة، مصدر رزقهم الوحيد. هل تصدقون أن هذين الزوجين عَلّما 13 ولداً وبنتاً أفضل تعليم جامعي؟ وأن أبناء عايشة عشاق من الطراز الأول لوطنهم، وأبناء وطنهم، وأن تعلقهم بالأرض وحنينهم إليها، يشبه حنين النار إلى الماء؟
عندما جلست إلى جانب صديقي وهو يقود بي سيارته، أخذ يحدثني عن «عايشة»، وحنينه إليها، فانفجر في بكاء محموم كطفل يتيم. انهمرت دموعي، وتمنيت أن تعود عايشة، وأن أسافر إليها لتمنحني قلماً أستخدمه في الكتابة، علّه يفقه قولي. رحم الله عايشة.

والله من وراء القصد

عن الدستور