النسخة الكاملة

زراعة الحُب

الخميس-2021-09-07 11:37 am
جفرا نيوز -

جفرا نيوز - بقلم عامر طهبوب - قدّر الله أن يرزقني في ريعان شبابي في «بيت رأس» بأم لم تلدني، وأخ لم تلده أمّي، بل ولدته الحاجة «رُفعة». نشمية كريمة يتسع قلبها لسماء ربها، أحببتها وما زلت قابض على حبّها. سَأَلَت ولدها يوماً: «تفَقّدِت أخوك؟»، قال: «كل يوم بَشوفُه يا حاجة»، قالت: «والله إني اشتقت لشوفتُه»، قال: «الأسبوع الماضي كان عندك»، قالت: «ليش الأسبوع قليل على قلب الأم»، فأسرع إلي في صباح اليوم التالي حاملاً لي «زُوّادة» من يديها قائلاً: «أُمّك طالِبتَك».

سارعت إلى زيارتها في مساء ذلك اليوم، وما هي إلا لحظات حتى أطلّ علينا زوجها «أبو حمد»، وهي تحكي لي قصصاً عن شبابه عندما كان يعود من عمله في حيفا مشياً على الأقدام مروراً بسهل مرج بن عامر وبحيرة طبريا محمّلاً بحكايات عن البحر والبرتقال، وبيارات البرتقال. عبرنا إلى بيتها من فسحة أرض تكسوها «مشاكب» النعناع، والبقدونس، والسبانخ، والفجل، والبصل، وغير ذلك كثير، ويقترب «أبو حمد» للجلوس بقربها - وقربها نعيم - فتبتسم في وجهه وهي تمسك يدي وتسحبني للجلوس بجانبها، فترتسم على وجهه ابتسامة راضية.

لم يكن هناك أشهى من رغيف خبزها، ولا أطيب من لقمتها، ولا أبشّ من وجهها، ولا أحنّ من قلبها، ولا أعطف من عطفها، ولا كرم يماثل جودها. تعدُّ لنا الشاي على نار الحطب عندما تعطب بوابيرها، فنحملها إلى أبو «السعيد» في سوق الحَبّ، وتتثلم نصال سكاكينها، فنأخذها لتجليخها عند «أبو زكي»، وهو رجل يشبه «أبو الهول»، أو هكذا كنا نراه، طويل القامة، كبير البنية، وكنت أدقق كيف يمرر أصابعه على طرف حد السكين ليتحسس براعة عمله، وهو يعرف ما تعنيه السكين الحادة للحاجة «رُفعة» التي تُشبّه السكين غير القاطعة بالرجل العجوز.

كانت بيت رأس قد ودّعت منذ عهد الرومان معاصر النبيذ، لكنها لم تسمح باختفاء اللون الأحمر القاني عن المشهد، ولم تتنازل عن العسل والماء، ولا الوجه الحسن، فظلت واحة تنثُر الحَبَّ والحُبّ في السهول الخضراء.

لم نكن نُدرك - أحمد وأنا - في ذلك الوقت، أثر ما زرعته الحاجة من بذور الحُبِّ إلا بعد زمن طويل. لم نكن نعرف عبقرية الحُب، كنا مراهقين، مراهقين في فهم الحياة، ومراهقين في فهم الجذور، وفي نثر البذور، إلى أن كبرنا، فوجدنا أنفسنا نحمل رسالة أمّنا دون أن ندري، لم نكن ندري أن للحُب روحاً لا تفارق، حملنا معاً الرسالة. أدركنا الآن أن الحُبّ يورّث، فورّثناه لأبنائنا. رحلت الحاجّة، وظلّت روحها، وظلّ الحُبَّ، وسوق الحَبّ، ووجه الرّب.

والله من وراء القصد

نقلاً عن الدستور

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير