جفرا نيوز -
جفرا نيوز - محمد خروب
تحت جُنح الظلام وبدون عرض عسكري «استعراضيّ» تتقدمه ثلّة من جنرالات على كتف كل واحد منهم نجوم أربع وصدور مزدحمة بالأوسمة والنياشين.. قبل حفل تسليم واستلام، وبدون «جماهير» يتمّ انتقاؤها أمنياً، وتُجبَر على رفع يافطات شكر تقول: شكراً أميركا.. هرب آخر جنرالات جيش الإمبراطورية الأميركية, بعد قيامه بعملية «إعطاب» كبرى لعشرات طائرات النقل الضخمة والمروحيات المقاتلة، إضافة إلى منظومة صواريخ مُتطورة مضادة للصواريخ، ناهيك عن مئات حاملات الجند وتلك المدرعة.
هرب الأميركيون، ولكن الأصحّ تحرّرت بلاد الأفغان من استعمار طال العقدين من السّنين, لم ينعم خلاله الأفغان بالأمن ولم يطرأ عليهم كما على بلادهم الفقيرة أيّ تطوّر يُذكَر وعلى أيّ صعيد، ناهيك عمّا لحق بالبنى التحتية الأفغانية المتواضعة من خراب وتدمير مقصود, إضافة إلى انهيار اقتصادهم الأكثر تواضعاً وارتفاع نِسب الفقر والبطالة، والافتقار إلى أبسط الخدمات، ما فضح الدعاية الأميركية المفرطة في كذبها وزعمها بأنها جاءت لإنقاذ الأفغان من حكم طالبان المُتخلف والظلاميّ.. وأنّها ستنتصر للنّساء والأطفال وستنتشر الديمقراطية وتأخذ بيد بلاد الأفغان التي تتوفر على ثروات معدنية هائلة وتتمتع بموقع جيوسياسي استراتيجي, يخدم في الأساس مشروعاتها الإمبريالية وخططها الرامية تحجيم الصين وتطويق روسيا, على نحو يحول دون «إسقاطها» من القيادة المنفردة للعالم, بعدما ظنّت أنّ بمقدورها مُواصلة هذا «التفرّد» بعد انتهاء الحرب الباردة.
سقطت كلّ هذه الأوهام وانكشفت كلّ الأكاذيب الأميركية، ولم يعد بمقدور أحد في إدارة بايدن كما إدارة ترمب التي سبقتها (التي وقّعت اتفاق الدوحة مع طالبان/الظلامية والمتشددة كما يصفها الأميركيّون في 29 شباط 2020).. إنكارَ حقيقة أنهم خسروا الحرب، وأنّ حرب «الضرورة» التي أشعلها بوش الصغير بتحريض من قادة حزب الحرب وثلة المحافظين الجدد، ألحقت عاراً آخر بأميركا يكاد يفوق في دلالاته وتداعياته واكلافه عار فيتنام، خاصة أن طالبان لم تحظ بدعم عسكري/أو سياسي/أو لوجستي وإعلامي يُذكر، مقارنة بما حظيَ به ثوار الفيتكونغ الذين وقفت خلفهم هانوي/فيتنام الشمالية والاتّحاد السوفياتي، ومنظومة الدول الاشتراكية وحلف وارسو والصين وحركات التحرر الوطني في العالم, فضلاً عن الدّعم الشعبي داخل أميركا نفسها وخاصة التيارات الرافضة لهذه الحرب, التي استنزفت أميركا وانتهت إلى هزيمة مدوية «خلّدتها» صورة مروحية أميركية تُنزل حبلاً على ظهر السّفارة الأميركية في سايغون, كي يتعربش بها السّفير الأميركي هارباً قبل دخول دبابات الفيتكونغ باحة سفارته.
هل طالبان...حركة تحرّر وطني؟
النقاش حول هذه المسألة يتّسم بالعبثية حتّى لو ذهب أحدهم في شططه لإلباسها ثوباً كهذا لم تدعيه الحركة لنفسها يوماً. لكن السؤال الأكثر أهمية هنا.. هل نهضت حركة تحرّر وطني أفغانية شاهرة السّلاح ومنخرطة في تنظيم الجمهور الأفغاني لمقاومة المحتلّ الأميركي, الذي زعم أنّه قدِم في أكتوبر/2001 لسحق تنظيم القاعدة. ما لبث أن واصل احتلال أفغانستان لعشرين عاماً لاحقة؟
هنا تكمن حقيقة أنّ أفغانستان بعديدها السكّاني الذي يصل إلى 40 مليون نسمة، لم يكن فيها سوى «طالبان» التي قاتلت بأسلحتها وعديدها المتواضِع, مقارنة بمئات آلاف جنود الدولة الأقوى في العالم، فضلاً عن أزيد من مائة ألف من جيش حكومات الدّمى التي أقامتها في كابول, وجاءت بـِ«أميركيين» من أصل أفغاني مثل حامد قرضاي وأشرف غني ليحكموها، وكان مبعوثهم لأفغانستان الأميركي/الأفغانيّ الأصل زلماي خليل زاد..ليفاوض طالبان ويُوقّع اتفاق الانسحاب معها.
لم أجد عبارة تلخّص وقائع الهزيمة الأميركية المتوالية فصولاً, بعد جلاء آخر جندي أميركي أفضل مما كتبه إيشان شارور في «واشنطن بوست» أمس تحت عنوان «بايدن يترأس رحيلاً مُخزياً»... «كلّ التطورات منذ بدء الانسحاب الأميركي تشير إلى حقيقة واحدة، وهي أن الولايات المتّحدة فشلت في هزيمة طالبان، وفشلت في إقامة ديمقراطية فاعلة في بلد أنفقت فيه كميات هائلة من الدماء والأموال.. وفشلت في إحباط, بل يمكن القول إنّها ساعدت في تأجيج انتشار الجماعات الإسلامية المتطرفة، وفشلت حتّى الانسحاب بشروطها».
إلى أين من هناك؟
لم يجرؤ كبيرالجنرالات «ماكنزي» على قول اننا «أنجزنا المهمة», كما كذب بوش الصغير ذات يوم عن غزوه العراق، بل قال..«أنجزنا انسحابنا». ذلك قول يستبطن مرارة الهزيمة والإذلال الجديد لإمبراطورية لا تتّعظّ من هزائمها، ولا تقرّ بأنّ للقوة حدوداً لا يمكن تجاوزها مهما بلغت قوّتها النارية... و«سطوتها» السياسية.