جفرا نيوز -
جفرا نيوز- كتب علاء الدين أبو زينة
بعد أحداث اجتياح «الكابيتول» في الولايات المتحدة مؤخراً، غرد ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية: «هذا كثير على الانتقال السلمي للسلطة، والاستثنائية الأميركية، وكوننا مدينة مشرقة على تل». وتشبيه المدينة مأخوذ من عظة السيد المسيح، عليه السلام، على الجبل، التي يقول فيها: «أَنتُم نورُ العالَم. لا تَخْفى مَدينَةٌ قائِمَةٌ عَلى جَبَل».
يحاول هذا التعليق، والكثير من نوعه، الإيحاء بأن هجوم الرعاع المتطرفين على الكونغرس هو حدث معزول، لا يمتّ بصلة إلى «المثال» الأميركي. وقد عبر عن ذلك الرئيس المنتخب جو بايدن بوضوح، حين صرح يوم الأحداث بأنها «لا تعكس أميركا الحقيقية. ولا تمثل من نكون». وتلخّص عبارته المنطلق المتطرف الذي تقوم عليه سياسات الولايات المتحدة وتصرّفاتها في العالم. وهي لا تختلف عن أي متشدِّد يعتقد في نفسه امتلاك الحقيقة والعصمة واستحالة الخطأ، ويؤمن بأن رسالته في الحياة هي نشر «حقيقته» وهداية كل الآخرين الضالين -يُفضل بالسيف، في الحالة الأميركية.
هكذا كانت فكرة المهاجرين الأوروبيين المتديّنين الذين استعمروا القارة المكتشفة حديثاً وأبادوا أهلها. كانوا يعتقدون أن هجرتهم قَدر مكتوب، غايتها حفظ أنفسهم لحفظ إيمانهم ونشر رسالتهم. وإذا كان ذلك يتطلب ذبح أهل البلد الأصليين، فإنه ذبح مقدّس من أجل بناء المنارة، المدينة المشرقة على الجبل. ولم يتغيّر شيء في الحقيقة طوال التاريخ الأميركي. دائماً يتحدثون عن «المثال» بورع، ويتأسون لأن حدث الكابيتول أو أي اضطرابات يراها العالم في النظام الأميركي، تضر بـ»التأثير الأخلاقي» لأميركا في العالم.
كتبت الصحفية والمؤرخة الأميركية، آن أبلباوم، مشيرة إلى حركات المعارضة والاحتجاج الشعبية المناهضة للاستبداد في العالَم: «بعد ما حدث بالأمس، سيكونون قد فقدوا مصدراً إضافياً للأمل، وحليفاً كان يمكنهم الاعتماد عليه. إن قوة النموذج الأميركي ستكون أكثر خفوتاً مما كانت عليه ذات مرة؛ وسيكون من الصعب الاستماع إلى الحجج الأميركية».
نحن، وكل الذين يعانون من تداعيات السياسات الأميركية في كل أنحاء العالم يعرفون أفضل. ليست الديمقراطية هي أن يقف أي أميركي على زاوية شارع ويشتم رئيس الدولة. إن كثيراً من الذين يشتُمون هم ضحايا في مجتمع خال من العدالة الاجتماعية. وقد أصبحت أميركا تُستدعى أولاً باعتبارها المثال الأوضح لتفاوت الدخل، وتركز الثروة في أيدي القلة، وأحياء الأكواخ المخيفة، والمشردين في الشوارع، والمجرمين ومتعاطي المخدرات، والتمييز العنصري الصريح، والعداء للمهاجرين ورهاب الأديان. وكان الذين هاجموا الكونغرس أميركيون، من الذين يعتبرون أنفسهم الأميركيين الحقيقيين، البيض، المتفوقين. وكانوا هم الذين أوصلوا ترامب إلى السلطة باختيار برنامجه المتعالي وجنون العظمة الذي يجسده.
الذين هاجموا الكونغرس هم من نوع الجنود الذين تمرّسوا في الوحشية خلال مهماتهم «التحريرية» في الخارج. ومثلما تعلّموا أن العنف والقتل والتعذيب التي يمارسونها ضد الشعوب التي ذهبوا ليزودوها الديمقراطية، رأوا أن العنف نفسه يصلح لفرض رؤيتهم لصلاح مجتمعهم «الاستثنائي»، باعتبارهم الصالحين الوحيدين، على مواطنيهم أيضاً. وأفاد ضابط متقاعد من مكتب التحقيقات الفيدرالية بأن المكتب يراقب نحو 300 تنظيم يميني متطرف، من التفوقيين البيض، والنازيين الجدد، وعصابات الشوارع. وهؤلاء كلهم إقصائيون، كارهون وعنيفون، مثل بلدهم نفسه.
في مقال له في مجلة «فورين أفيرز»، كتب كيليبوغايل زفوبغو، زميل العلوم الاجتماعية في جامعة جنوب كاليفورنا: «على مدى الأيام القليلة الماضية، كرر الإعلام والقادة السياسيون الأميركيون لازمتهم: «هذا ليس مَن نكون» و»هذه ليست أميركا». هذا ليس من نكون؟ هذه ليست أميركا؟ على العكس: هذه في الواقع هي أميركا في جوهرها. لكن العيب الأساسي في المشروع القومي للولايات المتحدة هو عدم قدرة مواطنيها على الاتحاد حول فهم مشترك للواقع، خاصة فيما يتعلق بالعنصرية الهيكلية والظلم المنهجي»
وكتب إيشان ثارور في «الواشنطن بوست»: يعتبر الكثيرون في الخارج أن رؤية «المدينة المشرقة على التل» قد ماتت ألف مرة. بالنسبة للبعض، كان من الوهم دائماً إخفاء الانقلابات التي دبرتها واشنطن والأنظمة العسكرية العميلة التي حددت سياساتها الوطنية لعقود. وبالنسبة لآخرين، انسحق إيمانهم بالمثال الأميركي في عنابر التعذيب في أبو غريب والتريليونات العديدة من الدولارات التي أُنفقت خلال العقدين الأخيرين على الحروب المدمرة للولايات المتحدة».
هذه هي أميركا المخفيّة تحت مسوح الصلاح، بينما تفسد وتقتل أكثر من أي متطرف عنيف آخر.