جفرا نيوز -
م. سعيد بهاء المصري
مع اقتراب الحديث الدولي عن «اليوم التالي» للحرب على غزة، عاد إلى الواجهة مقترح أميركي حمل اسم Project Sunrise، كخطة شاملة لإعادة إعمار القطاع وتحويله، خلال عقدين، إلى مدينة ساحلية حديثة ذات طابع استثماري وسياحي عالٍ، شُبّهت في بعض عروضها بما سُمّي «ريفييرا الشرق الأوسط».
غير أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه ليس حجم التمويل ولا جمالية المخططات، بل:
هل هذه الخطة مصمَّمة لإعادة إسكان مجتمع غزة، أم لإعادة توظيف أرض غزة؟
أولًا: ماذا تقول الخطة كما وردت في Times of Israel؟
بحسب ما نشرته صحيفة Times of Israel، فإن Project Sunrise قُدّمت في وثيقة عرض من 32 شريحة (PowerPoint)، وُصفت بأنها «حساسة لكن غير سرية»، وتم تداولها مع عدد من الدول المانحة المحتملة.
أبرز ملامح الخطة:
* المدى الزمني: إعادة تشكيل غزة على مدى 20 عامًا.
* الكلفة: نحو 112 مليار دولار خلال أول 10 سنوات.
* المراحل الجغرافية: أربع مراحل تبدأ من جنوب القطاع (رفح وخانيونس)، ثم المناطق الوسطى، وتنتهي بمدينة غزة.
* المرحلة التمهيدية:
* إزالة الأنقاض
* إزالة الذخائر غير المنفجرة
* تفكيك الأنفاق
* توفير «ملاجئ مؤقتة» ومراكز طبية
من دون تحديد واضح أين سيقيم السكان خلال هذه المرحلة.
* مرحلة البناء الدائم: إنشاء مساكن وبنية تحتية ومرافق عامة.
* الواجهة الساحلية: بناء مناطق سكنية فاخرة، أبراج، واجهات بحرية، ونقل سككي وتقني متطور.
* الهدف الاقتصادي المعلن: بحلول السنة العاشرة، تحويل نحو 70? من الساحل الغزي إلى أصل استثماري مُدرّ للعائد.
* «New Rafah»: تصور لمدينة جديدة في رفح تضم أكثر من 100 ألف وحدة سكنية، وتُطرح كمركز إداري وحكومي.
* الشرط السياسي/الأمني: نزع سلاح حركة حماس وتفكيك بنيتها العسكرية كشرط مسبق لأي تنفيذ.
الخطة، كما وردت، طموحة من حيث اللغة والعناوين، لكنها صامتة في أكثر النقاط حساسية: مصير مليوني إنسان يعيشون فعليًا فوق أرض إعادة الإعمار.
ثانيًا: المعضلة الحقيقية أين يذهب مليونا غزّي؟
غزة ليست أرضًا خالية يمكن إعادة تخطيطها من الصفر، بل واحدة من أعلى المناطق كثافة سكانية في العالم.
أي مشروع إزالة أنقاض وبناء واسع النطاق يعني عمليًا:
* مناطق مغلقة لأسباب أمنية
* أحزمة أمان حول ورش الإعمار
* ممرات لوجستية ثقيلة
* منع إقامة السكان في مساحات واسعة لفترات طويلة
ومع غياب خريطة إسكان انتقالي واضحة، يصبح الخيار الواقعي الوحيد هو تجميع السكان في مناطق محددة داخل القطاع، سواء سُمّي ذلك «مؤقتًا» أم لا.
هنا يبدأ الخطر الحقيقي.
ثالثًا: المنطقة خلف «الخط الأصفر» نصف غزة تحت الاحتلال المباشر
هناك معطى ميداني بالغ الخطورة لم تتطرق إليه الخطة صراحة، لكنه قائم فعليًا على الأرض، ويتمثل في أن:
المنطقة الواقعة خلف ما يُعرف بالخط الأصفر الحالي تخضع اليوم لسيطرة عسكرية إسرائيلية كاملة، وتمثل ما يقارب نصف مساحة قطاع غزة.
هذه المنطقة:
* محتلة بالكامل من قبل الجيش الإسرائيلي
* شبه خالية عمرانيًا بعد العمليات العسكرية
* خاضعة لإدارة أمنية مباشرة
* ملاصقة جغرافيًا لمستعمرات ما يُعرف بـ «غلاف غزة»
وهنا تبرز فرضية واقعية لا يمكن تجاهلها:
أن تتحول هذه المساحة، الواقعة خلف الخط الأصفر، إلى منطقة تجميع سكاني فلسطيني كثيف، يُنقل إليها مليونا غزي خلال مراحل الإعمار، تحت مسمى «إسكان مؤقت».
رابعًا: من «السكن المؤقت» إلى الموطن الدائم القسري
في تجارب النزاعات الممتدة، لا يتحول السكن المؤقت إلى دائم بقرار سياسي معلن، بل عبر الزمن والاعتياد وغياب البدائل.
السيناريو العملي المحتمل هو الآتي:
* نقل مليوني غزي إلى:
* مساكن سريعة الإنشاء
* بنى متواضعة
* كثافة سكانية عالية
* تحت ذرائع:
* القرب من مناطق الإعمار
* المتطلبات الأمنية
* حماية مشاريع الساحل والاستثمار
ومع مرور الوقت:
* تُطوَّر هذه المساكن «تحسينيًا»
* تُمد لها خدمات أساسية
* يُرفع عنها توصيف «المؤقت»
فتتحول عمليًا إلى:
موطن دائم قسري، محاذٍ لمستعمرات غلاف غزة، وتحت إشراف أمني مباشر.
وهنا نكون أمام إعادة إنتاج نموذج الكانتون السكاني، لا إعادة إعمار مدينة.
خامسًا: فصل السكان سياسة غير معلنة
في هذا السيناريو، يصبح قطاع غزة مقسومًا وظيفيًا إلى:
* داخل سكاني كثيف:
* فقر بنيوي
* فرص محدودة
* حركة مقيدة
* احتكاك أمني دائم
* شريط ساحلي مُعاد بناؤه:
* قيمة عقارية مرتفعة
* استثمارات أجنبية
* إدارة أمنية مشددة
* دخول انتقائي
هذا الفصل لا يحتاج إلى إعلان سياسي، لأنه يُدار عبر:
* التخطيط
* الأمن
* الاستثمار
* والزمن
وهو أخطر أشكال الفصل، لأنه يُقدَّم للعالم بوصفه «حلًا عمليًا».
سادسًا: الساحل ليس سياحة فقط بل بوابة إلى ثروة الغاز
توجد ملاحظة استراتيجية بالغة الأهمية غالبًا ما تُغفل في النقاش العام، وهي أن الشريط الساحلي الغزي ليس مجرد واجهة سياحية محتملة، بل يشكّل بوابة مباشرة إلى خزان ضخم من الغاز الطبيعي الممتد قبالة الساحل الشرقي لـ البحر المتوسط.
هذا الخزان:
* جزء من منظومة احتياطيات الغاز في شرق المتوسط
* ظل لعقود محل نزاع صامت بسبب غياب السيادة الفلسطينية الفعلية
* تحيط به اليوم بنية أمنية واقتصادية إسرائيلية متقدمة
وعليه، فإن فصل السكان الأصليين عن شواطئ غزة عبر تحويل الساحل إلى منطقة استثمارية محمية ومغلقة نسبيًا، لا يحمل بعدًا عمرانيًا فقط، بل بعدًا سياديًا وطاقويًا بالغ الحساسية.
فالتحكم بالواجهة الساحلية يعني عمليًا:
* التحكم بنقاط الوصول البحرية
* التحكم بترسيمات الاستغلال
* التحكم بخيارات التطوير والاستخراج
وهو ما يفتح الباب أمام تجيير احتياطيات الغاز عمليًا لصالح إسرائيل، سواء عبر الأمر الواقع أو عبر شراكات «استثمارية» تُقصي أصحاب الحق الأصليين.
بهذا المعنى، تصبح «ريفييرا غزة»:
ليست فقط فصلًا بين السكان والبحر،
بل فصلًا بين الفلسطينيين وثروتهم الطبيعية الكامنة قبالة سواحلهم.
سابعًا: إعمار بلا سيادة بديل ناعم عن حل الدولتين
بهذا الشكل، لا يعود المشروع مجرد خطة عمرانية، بل يصبح:
* إعادة تعريف لوظيفة غزة
* تحويل الأرض من فضاء حياة إلى أصل اقتصادي
* إدارة السكان كملف أمني–إنساني
* وتحييد الحقوق السيادية، بما فيها الموارد الطبيعية
وهو ما يُفرغ أي حديث عن دولة فلسطينية من مضمونها، ويستبدله بنموذج:
مدينة حديثة بلا شعب، وشعب بلا مدينة، وثروة بلا أصحاب.
الخلاصة: السؤال الذي يحدد كل شيء
قبل الحديث عن الريفييرا، والأبراج، والواجهات الذكية، يجب الإجابة كتابةً وبالتزام دولي واضح عن سؤال واحد:
هل يُبنى مستقبل غزة مع أهلها، أم يُبنى فوقهم وعلى حساب مواردهم؟
من دون:
* خطة إسكان انتقالية داخل غزة
* أولوية سكن وملكية للفلسطينيين
* سيادة مدنية فلسطينية
* ضمان وصول متكافئ إلى الساحل
* واعتراف صريح بالحقوق الفلسطينية في ثروات البحر
فإن أي «إعمار» سيكون في جوهره إعادة هندسة للصراع، لا حلًا له.