جفرا نيوز -
ماجد السيبية
شهد ملف خصخصة القطاع العام في الأردن مسارًا طويلًا من الجدل والتجربة، بين من يراه خيارًا إصلاحيًا لا بديل عنه لتحسين الكفاءة وتخفيف العبء عن المالية العامة، ومن ينظر إليه بتحفّظ نتيجة تجارب سابقة لم تحقق جميع أهدافها. وبين هذين الرأيين، تبرز الخصخصة اليوم كأداة إدارية واقتصادية لا يمكن الحكم عليها بمعزل عن طريقة تطبيقها، خاصة عندما يتعلق الأمر بقطاع البلديات القريب من حياة المواطن اليومية.
بدأت الخصخصة في الأردن منذ أواخر التسعينيات في سياق إصلاحات اقتصادية أوسع، شملت قطاعات حيوية مثل الاتصالات، النقل، التعدين، وإدارة المياه. وقد حققت بعض هذه التجارب نتائج إيجابية تمثلت في جذب استثمارات جديدة، وتحسين الكفاءة التشغيلية، وتخفيف الضغط عن الخزينة، إلا أن تجارب أخرى أظهرت تحديات حقيقية تتعلق بارتفاع الكلف على المواطنين، وضعف الرقابة، وسوء إدارة العقود، ما عزز حالة الشك المجتمعي تجاه هذا الخيار.
من الناحية النظرية، تتيح الخصخصة للقطاع الخاص العمل وفق منطق الكفاءة والسرعة وضبط التكاليف، كما تفتح المجال أمام نقل الخبرات والتكنولوجيا دون تحميل الدولة أعباء استثمارية إضافية. غير أن هذه الإيجابيات لا تتحقق تلقائيًا، بل ترتبط بوجود أطر تنظيمية واضحة، ومؤشرات أداء قابلة للقياس، وجهات رقابية قادرة على المحاسبة. ففي غياب هذه العناصر، قد تتحول الخصخصة إلى مجرد نقل للاحتكار من القطاع العام إلى الخاص، مع ما يرافق ذلك من آثار سلبية على جودة الخدمة وعدالتها.
وتُظهر التجارب الدولية، وخصوصًا في الدول المحيطة بالأردن، أن خصخصة الخدمات البلدية يمكن أن تنجح عندما تُنفذ بشكل تدريجي ومنضبط. ففي الإمارات العربية المتحدة، اعتمدت البلديات الكبرى على إسناد خدمات مثل إدارة النفايات، المواقف العامة، وإنارة الشوارع لشركات خاصة ضمن عقود قائمة على الأداء، مع رقابة رقمية صارمة وشفافية عالية. هذا النموذج أسهم في تحسين مستوى الخدمات وتقليل الكلف التشغيلية، دون المساس بدور الحكومة الرقابي أو بحقوق المستخدمين.
وفي المملكة العربية السعودية، شهد قطاع البلديات خلال السنوات الأخيرة تحولًا واضحًا ضمن برامج التحول الوطني، حيث تم نقل عدد كبير من الخدمات التشغيلية، كالنظافة وصيانة الطرق وتشغيل المرافق، إلى القطاع الخاص. وقد مكّن هذا التوجه البلديات من التركيز على التخطيط الحضري والرقابة، بدل الانشغال بالتشغيل اليومي، مع تحسن ملحوظ في كفاءة التنفيذ ومستوى الخدمة في المدن الكبرى.
أما في المغرب، فقد برزت تجربة تدبير النفايات الصلبة كأحد أبرز نماذج الخصخصة البلدية في المنطقة، حيث جرى إسناد جمع النفايات وتشغيل المطامر الصحية لشركات خاصة في عدد من المدن. ورغم ما رافق التجربة من تحديات في بعض المراحل، إلا أن وضوح العقود، وربطها بمؤشرات أداء، وإمكانية تدخل البلديات عند الإخفاق، أسهمت في تحسين الخدمة مقارنة بالأنماط التقليدية السابقة.
وتقدم تركيا نموذجًا مختلفًا يقوم على إنشاء شركات خدمات بلدية مملوكة جزئيًا للبلديات وتدار بعقلية تجارية، مع إشراك القطاع الخاص في الإدارة أو الاستثمار. هذا النموذج الهجين أتاح مرونة تشغيلية عالية، وحقق توازنًا بين الربحية وضمان الخدمة العامة، خاصة في مجالات النقل الحضري، إدارة الحدائق، وتشغيل المرافق العامة.
ويُعدّ قطاع البلديات في الأردن من أكثر القطاعات حساسية عند الحديث عن الخصخصة، كونه يمس خدمات يومية مباشرة مثل النظافة العامة، جمع النفايات، إنارة الشوارع، إدارة المواقف، والحدائق العامة. وتعاني العديد من البلديات من محدودية الموارد، وارتفاع كلفة التشغيل، ونقص الكفاءات الفنية، ما يجعل البحث عن نماذج بديلة لتقديم الخدمات أمرًا ملحًا، دون أن يعني ذلك التخلي عن الدور الرقابي للدولة أو المجالس البلدية.
الخصخصة في البلديات لا تعني بيع الأصول أو الانسحاب الكامل للقطاع العام، بل يمكن أن تبدأ من خلال إسناد خدمات تشغيلية محددة لشركات متخصصة بعقود واضحة ومحددة المدة. ويمكن ربط هذه العقود بمؤشرات أداء دقيقة تتعلق بمستوى النظافة، سرعة الاستجابة للشكاوى، ورضا المواطنين، مع فرض غرامات عند التقصير، ومكافآت عند تحقيق نتائج متقدمة. كما يمكن توسيع هذا النهج ليشمل إدارة المواقف العامة، أو تشغيل مرافق رياضية وحدائق مقابل رسوم مدروسة تعود جزئيًا للبلديات.
غير أن نجاح أي تجربة خصخصة في البلديات يتوقف على شروط أساسية، في مقدمتها وضوح العقود، ووجود جهاز رقابي فعّال ومستقل، وضمان الشفافية في الطرح والتنفيذ، إضافة إلى معالجة أوضاع العاملين الحاليين من خلال التدريب أو إعادة التأهيل أو النقل الوظيفي، حتى لا تتحول الخصخصة إلى أزمة اجتماعية أو عامل توتر محلي.
في المحصلة، لا تمثل الخصخصة حلًا سحريًا لمشكلات البلديات، كما أنها ليست خطرًا مطلقًا ينبغي تجنبه. هي خيار إداري واقتصادي يمكن أن ينجح إذا استند إلى دراسات واقعية، وتجارب إقليمية ودولية مثبتة، وإدارة رشيدة تضع مصلحة المواطن في المقدمة. والأردن، بما يمتلكه من خبرة سابقة في هذا الملف، قادر على تطوير نموذج متوازن يتيح للبلديات الانتقال من إدارة التفاصيل اليومية إلى التركيز على التخطيط والرقابة وجودة الحياة، دون التفريط بالمسؤولية العامة أو العدالة في تقديم الخدم