جفرا نيوز -
إسماعيل الشريف
ما عهدنا بالأردني إلّا الوفاء والانتماء لهذا الوطن – عبد الله الثاني ابن الحسين.
في عام 1993، أطلق شمعون بيريز، وزير خارجية الكيان الصهيوني آنذاك، رؤيته السياسية للمنطقة عبر مسارٍ اقتصادي، وقدّمها في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» قبل أن يتولّى رئاسة الوزراء بعد اغتيال رابين. تمثّلت فكرته في دمج الكيان بالكامل في المنطقة العربية من خلال مشاريع اقتصادية وتكنولوجية ضخمة. رأى بيريز أن الصراع لا يُحسم بالقوّة، بل عبر خلق واقع اقتصادي إقليمي يجعل الدول العربية مرتبطة بالكيان تجاريًا وتكنولوجيًا وبشبكات البنية التحتية، بحيث يتحوّل الكيان إلى ضرورة اقتصادية لتلك الدول، فيسقط خيار الحرب تلقائيًا.
أدرك قادة الكيان الصهيوني في ذلك الوقت أن القوّة وحدها لا تكفي لضمان بقائه في المنطقة، وأنه لا مفرّ من السلام. غير أنّ الخطر لم يأتِ من الأعداء، بل من الداخل نفسه؛ إذ جرى اغتيال إسحاق رابين عام 1995. وقد أخطأوا في قراءة المشهد الداخلي، بعدما انزلق مجتمعهم إلى التطرّف. ويُقال إن نتن ياهو كان متورطًا في اغتياله، إذ صنع بيئة تحريضية ضد رابين، وسمح بخطاب ديني وسياسي يصفه بالخائن، وظهر إلى جانب صور تُظهر رابين بلباس نازي. ولهذا يُقال داخل الكيان: «صحيح أن نتنياهو لم يضغط على الزناد، لكنه أوجد المناخ الذي قاد إلى الاغتيال».
ويبدو أن طوفان الأقصى قد طوى، ضمن ما طواه، رؤية بيريز؛ فالكيان لن يكون جزءًا طبيعيًا من المنطقة، وسيبقى جسمًا غريبًا مهما امتلك اليوم من فائض القوّة. فالقوّة وحدها لا تكفي لحمايته، وسيأتي يوم تتغيّر فيه موازين القوى والظروف؛ وهذه من بديهيات التاريخ.
وفي الأخبار أن الكيان الصهيوني أبلغ الأردن بأنه لن يزوّد المملكة بحصّتها السنوية المتفق عليها من المياه، والمنصوص عليها في معاهدة وادي عربة، متذرّعًا بأن السبب يعود إلى مشكلات سعرية وفنية، غير أنّ وزارة المياه تنفي هذه الادعاءات.
هذا القرار يبرهن أن الصهاينة موجوعون من الأردن، وهو في جوهره معاقبة للمملكة على دعمها لأهلنا في غزة، ومعاقبة للشعب الأردني العظيم المجبول على القومية والإنسانية وكراهيته المتأصّلة للكيان. كما يأتي ردًّا على الحملة الدولية التي يقودها الأردن، ولا سيّما في أوروبا، للتأثير في مواقف الدول من حرب الإبادة في غزة، وهي الحملة التي دفعت العديد منها إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وأدّت إلى جمود مؤلم في العلاقات السياسية مع الكيان، إضافة إلى عدم تطبيق الأردن لاتفاقية الطاقة مقابل المياه، وعشرات الأسباب الأخرى.
وما يجري اليوم ليس جديدًا؛ فهي ورقة ابتزاز يستخدمها نتن ياهو ضد الأردن، وقد مارس الأسلوب نفسه عام 2021 بعد توتر شديد في العلاقات. حينذاك ضغطت الولايات المتحدة على الكيان للالتزام بتوريد حصة الأردن من المياه، فجاءت رسالة نتن ياهو بأن شرطه للالتزام هو السماح له بزيارة عمّان أولًا والالتقاء بجلالة الملك؛ إذ كان يسعى إلى اعترافٍ بدوره، وتحقيق إنجاز سياسي داخلي، وكسر مقاطعة الأردن له. غير أن الأردن رفض هذا الابتزاز بوضوح، ووجّه رسالته الحاسمة للولايات المتحدة: «الماء ليس أداة مساومة دبلوماسية». وعادت حقوق الأردن المائية رغم أنف نتن ياهو.
أثق بأن الإرادة السياسية في الأردن، وبأن حكومتنا بأجهزتها المختلفة، تعمل بجدّ لمعالجة هذه المشكلة، وأنا على يقين بأننا سنتجاوزها. فالكمية التي يزوّدنا بها الكيان تشكّل نحو 5% فقط من استهلاكنا السنوي من المياه، وتبرز أهميتها بشكل أكبر في فصل الصيف. وهي مياه تُخصَّص للشرب في أكبر مدينتين: العاصمة عمّان والزرقاء. لذلك، ففي هذه الفترة تحديدًا قد لا تشكّل هذه الكمية أهمية كبيرة.
وفي مثل هذه التحديات تبرز المواطنة الحقيقية؛ إذ تقع على عاتقنا كمواطنين مسؤوليات أساسية لمواجهة هذا الشح، في مقدّمتها الرقابة الذاتية في ترشيد استهلاك المياه، والالتزام التام بقرارات الحكومة في هذا الشأن. كما ينبغي التحدّث مع الأبناء حول أهمية الاقتصاد في المياه، وإصلاح أي تسريب فورًا مهما كان بسيطًا، وإغلاق الحنفيات أثناء الحلاقة أو تنظيف الأسنان، واستخدام الغسالة والجلاية عند امتلائهما فقط، وتركيب مرشدات المياه. وأعرف عائلات تجمع مياه الجلي ومياه المكيّفات وتستخدمها في تنظيف الحدائق، وتجمع مياه الشتاء وتسقي الحدائق ليلًا عند الضرورة، وتتجنب زراعة المحاصيل المنزلية التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه. كما يُفضَّل التقليل قدر الإمكان من غسيل السيارات والاكتفاء بالدلو بدل الخرطوم. هذه بعض الأفكار البسيطة التي تخطر ببالي، وأعتقد أننا بانتظار حملة وطنية يقودها المختصون لتوضيح ما يجب علينا فعله بدقة .
وقد يتطلّب الأمر إنشاء صندوق وطني شعبي للمياه نشارك به جميعا، يساند قرارات الحكومة ويوفّر الموارد المالية اللازمة لتأمين البدائل، مثل إنشاء محطات تنقية صغيرة، أو شراء المياه من دول أخرى، أو تعويض المزارعين الذين تتطلب محاصيلهم كميات كبيرة من المياه، إضافة إلى بناء السدود والبرك لتجميع مياه الأمطار، وإصلاح شبكات الفاقد.
فقضية المياه هي مسؤولية كل فرد في الأردن، وكم سيكون جميلًا أن نخرج من عنق الزجاجة مع اكتمال مشروع الناقل الوطني – المفترض إنجازه بحلول عام 2030 – وهو المشروع الذي سيحلّ مشكلة المياه في الأردن بشكل جذري. وحين ننظر إلى الخلف آنذاك سنقول بثقة: لقد انتصرنا على الصهاينة ولم نخضع لهم.
مرة أخرى يحاول نتن ياهو ابتزاز الأردن. لا أعلم ما هي شروطه هذه المرة، لكنها حتمًا ستتعلق بالقدس والضفة الغربية، وبمحاولته الخروج من عزلته السياسية.
غير أن الدرس الذي لم يتعلمه بعد هو أننا لا نخضع لابتزاز أحد، وسننتصر عليه كما انتصرنا في المرة الأولى، بل وسنبادر إلى قطع جميع الاتفاقيات الأخرى معه.
نموت ولا ننحني.