جفرا نيوز -
إسماعيل الشريف
قراءة وتحليل في انعكاساتها على الأردن
رأيتُ الدّهرَ مختلفًا يدورُ... فلا حُزنٌ يدومُ ولا سرورُ
وقد بُليتُ بعيشٍ كلّهُ... صفوٌ يُشوِّبهُ الفتورُ- أبو العتاهية.
أصدرت إدارة الرئيس ترامب خلاصة الاستراتيجية الوطنية للأمن القومي للولايات المتحدة، وهي وثيقة لا تُنشر عادةً إلا مرة واحدة في كل فترة رئاسية، أو عند حدوث تحوّلات جوهرية في السياسة الأمنية الأمريكية. وفي هذا المقال نستعرض سريعا أبرز ملامح هذه الوثيقة، ونبحث في انعكاساتها بشكل خاص على الأردن.
تقوم الاستراتيجية على مبدأ «أمريكا أولًا» بوصفه حجر الأساس في السياسة الخارجية، وتتبنى رؤية تركّز على إعادة بناء القوة الداخلية اقتصاديًا وصناعيًا وعسكريًا، مقابل تقليص الأعباء الخارجية.
وتحدد الوثيقة أهداف الأمن القومي في الحفاظ على التفوق العسكري والاقتصادي والتقني، وتشديد حماية الحدود ووقف الهجرة غير المنضبطة، ومنع صعود قوى منافسة تهدد المصالح الأمريكية.
وترى أن تحقيق هذه الغايات يتم عبر ثلاثة مسارات: فرض السلام بالقوة، وتقديم الدولة القومية على المؤسسات الدولية، وتقاسم الأعباء مع الحلفاء بدلًا من تحمّل واشنطن التكلفة وحدها، لا سيما في إطار الناتو.
وتقسّم الوثيقة العالم إلى مناطق يُتعامل معها بسياسات متفاوتة. فالأولوية القصوى تُمنح للنصف الغربي من الكرة الأرضية وبخاصة الصين، بينما تنخفض مكانة أوروبا إلى مستوى متوسط، ويتراجع حضور الشرق الأوسط مقارنة بالعقود الماضية، فيما تتحول العلاقة مع أفريقيا من المساعدات إلى الاستثمار.
ويُفسَّر هذا التحول تاريخيًا بأن الشرق الأوسط كان لعقود مصدر الطاقة الأول في العالم وساحة التنافس بين القوى الكبرى، وبؤرة صراعات تمتد آثارها عالميًا، بما في ذلك الأراضي الأمريكية.
غير أن عاملَي الطاقة والتنافس الدولي لم يعودا بذات الثقل؛ إذ تنوعت مصادر الطاقة عالميًا وأصبحت الولايات المتحدة دولة مُصدّرة، كما خفّ التنافس المباشر بين القوى الكبرى في المنطقة. ولا تزال واشنطن تمتلك أفضلية استراتيجية، خاصة عبر توثيق تحالفاتها مع العرب وإسرائيل.
وتبقى صراعات الشرق الأوسط مصدر قلق رغم انخفاض حدتها نسبيًا؛ إذ شهدت إيران تراجعًا في قدرتها العسكرية بعد عمليات إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، والضربة العسكرية التي شنها ترامب عام 2025 والتي ألحقت ضررًا كبيرًا ببرنامجها النووي.
ومع وقف إطلاق النار والإفراج عن المحتجزين أصبحت فرص السلام أكثر ثباتًا، وتراجع الدعم للجهات الحاضنة لحماس، فيما تظلّ سوريا مصدر قلق محتمل لكنها قد تتجه للاستقرار بدعم أمريكي ـ عربي ـ إسرائيلي ـ تركي.
ومع تخفيف القيود على إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة يتراجع الدافع التاريخي للتركيز على المنطقة، ما يفتح الباب لتحول الشرق الأوسط إلى وجهة استثمار عالمي في قطاعات تتجاوز النفط إلى الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي والدفاع. كما يمكن تعزيز المصالح الاقتصادية الأمريكية من خلال تأمين سلاسل التوريد وتطوير أسواق جديدة تمتد نحو أفريقيا.
وتظهر الدول العربية استعدادًا متزايدًا لمحاربة التطرف، وهو اتجاه ترى واشنطن ضرورة دعمه دون فرض نماذج إصلاح خارجية، فالتغيير الحقيقي يولد من داخل المجتمعات لا من خارجها.
وتبقى المصالح الأمريكية الأساسية ثابتة رغم التحولات: عدم السماح بوصول موارد المنطقة إلى خصومها، ضمان بقاء مضيق هرمز مفتوحًا، حماية الملاحة في البحر الأحمر، منع نشوء بيئة حاضنة للإرهاب، تأمين إسرائيل، وتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية.
ويبقى السؤال: كيف سينعكس هذا على الأردن؟ إن هذه السياسة ليست ثابتة وقد تتغير مع تغيّر الإدارة أو الظروف الدولية، إلا أن أثرها المباشر قد يظهر في تراجع الانخراط العسكري الأمريكي، مع استمرار الضغط الناتج عن مركزية إسرائيل في الاستراتيجية الأمريكية، بما يعزز التحديات أمام الأردن في قضيتي القدس والضفة. بالمقابل، تبرز فرص استثمار واسعة في حال تحرك الأردن سريعًا لالتقاطها، بينما قد يؤدي تحول هذه السياسة إلى نهج دائم إلى تراجع المساعدات المالية، مما يستدعي توسيع التحالفات وبناء قدرة دفاعية مستقلة نسبيًا. ومع كل ذلك لا يمكن تجاوز الدور الأردني، فهو لاعب محوري في ترتيبات ما بعد غزة، وشريك رئيسي في ملفات القدس والضفة، وركيزة في مكافحة الإرهاب وحماية الحدود الشمالية للمملكة.