جفرا نيوز -
البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
يقول الفيلسوف سبينوزا "الانفعالات التي لا نفهمها تسيطر علينا"، ولعل هذه العبارة تختصر المشهد العربي اليوم، حيث لم تعد الكراهية مجرّد انفعال عابر، بل ثقافة مكتملة الأركان، تتسرّب من تحت أبواب السياسة، وتظهر في تفاصيل التعليم، وتخترق لغة الإعلام، وتطل من شقوق منصّات التواصل، حتى باتت جزءًا من المزاج العام.
وفي العالم العربي، حيث عاش العرب قرونًا طويلة في ظلال الصراع السياسي والمذهبي والقبلي، وتراكمت خلالها سرديات تصنع ثنائية خطيرة "نحن" مقابل "هم". هذه الثنائية تحوّلت إلى بنية ذهنية تُزرع منذ الطفولة، عبر النكات، والأمثال، والقصص العائلية، والمناهج المدرسي، والخطاب، والإعلام.
وهذه الثنائية التاريخية التي توارثناها، عبر عنها عالم الاجتماع بيير بورديو قائلاً "أخطر ما في التاريخ أنه يعيش فينا أكثر مما نعيش فيه"، ولأن التاريخ يعيش فينا، أعاد إنتاج الكراهية كنوع من الذاكرة العمياء، التي لا تخضع للنقد ولا للفحص، فتتشكل في الوعي واللاوعي، وتصبح جزءًا من الشخصية الاجتماعية.
اكتسبت هذه الثقافة شكلًا أكثر خطورة، لأنها ترتبط بتاريخ من الإحباط الجمعي، وخيبات الدولة الوطنية. فحين تتراكم الخيبات، ويطول الانتظار، ويبهت الأمل، تصبح الكراهية ملاذ من يشعر بالعجز، وكما عبر عنها نيتشه قائلاً "من يحيا بلا أمل، يقدّس الكراهية". وكأنّه يلخّص واقع الكثير من الشعوب العربية التي انهكتها التقلّبات، وحاصرتها الوعود المؤجلة، فوجدت في الكراهية بديلًا عن العجز، وفي العنف اللفظي والمعنوي ممرًا للتنفيس.
ولعلّ من أكثر الأصوات العربية جرأة في تشخيص هذه الظاهرة، ما كتبه رئيس الوزراء الأردني الأسبق سعد جمعة في كتابه "مجتمع الكراهية". حيث كان جمعة يرى مبكرًا أن الكراهية ليست وليدة اللحظة، بل نتيجة انهيار المعنى وغياب المشروع الوطني الجامع، وتحول الإنسان إلى ذات محبوسة داخل انفعالاتها.
حذّر جمعة من أن الدول التي تُهمل العدالة وتصادر الكفاءات وتسمح بالفساد، إنما تزرع الكراهية دون أن تدري، وأن المجتمعات التي تفشل في صناعة مشروع وطني موحّد، ستنزلق تلقائيًا نحو الهويات الصغيرة، ليصبح المجتمع، كما قال "مسرحًا للانفعالات لا ساحة للعقل".
في الدول التي تعاني من الفساد أو المحسوبية أو غياب تكافؤ الفرص، وتفاوت الثروات، تتكرّس ثقافة الانقسام بدل من ثقافة المواطنة، وتضعف المؤسسات فتنمو الولاءات الصغيرة، ويفقد الناس حقوقهم، فيبحثون عن حماية في العشيرة أو الطائفة أو الجماعة، وكل فئة تشعر أنها مهددة، فتبحث عن الحماية في دوائر أضيق. وتتحوّل الدولة إلى ساحة تنافس لا ساحة ثقة، فيجد المواطن نفسه في مواجهة الاخر، يُحمّله مسؤولية أزماته اليومية، فتتشكّل دوائر كراهية متبادلة، كراهية اجتماعية، ومناطقية، وطبقية، وأيديولوجية. وعندها ينهار العمران النفسي للإنسان، فتتكاثر الكراهية كالعفن في الفجوات. وتتحوّل السياسة من فنّ إدارة الخلاف إلى تغذية الانقسام، ويتحوّل الإعلام من ساحة للنقاش إلى منصة تعبئة، وتتحوّل وسائل التواصل الاجتماعي إلى أسواق سوداء للمشاعر المحترقة.
نادرًا ما نربط بين الاقتصاد والكراهية، لكن العلاقة عميقة، إذ يلاحظ أمارتيا سن أن الفقر أحد أكبر محفزات نزعات الاحتقان الاجتماعي. فالفقر والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية تنتج احتقانًا سريع الاشتعال.
ومع تراكم الأزمات الاقتصادية، يتضخم السخط الصامت في المجتمع، وتصبح الكراهية متنفسًا اجتماعيًا لمن يشعر بالعجز، ويصبح الاقتصاد كحاضنة غير مرئية للكراهية. وهكذا تُبنى ثقافة الكراهية على أساس اقتصادي هش، ثم يكسوها الخطاب الاجتماعي بطبقات رمزية تُخفي جوهرها الحقيقي.
اليوم، ومع الانتشار السريع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، فأصبحت منصّات التواصل بيئة مثالية لانتشار ظاهرة الكراهية، إذ تعمل الخوارزميات على تعظيم المحتوى الأكثر غضبًا لأنه الأكثر انتشارًا، وتدفع الرسائل الانفعالية إلى الواجهة، لأنها الأكثر قدرة على جلب الأرباح. وكلّما ارتفعت حرارة الخطاب، ارتفعت معدّلات التفاعل، ومعها ترتفع قدرة المنصّات على قراءة هشاشتنا النفسية واستثمارها تجاريًا. وبذلك أصبحت اللاعب الخفي الأكثر تأثيرًا في تشكيل الوعي الجمعي. فهي لا تكتفي بالعرض، بل تعيد تشكيل ما نظن أنّه واقع.
ان هذا الدور للخوارزميات اختزله سلافوي جيجيك حين قال "في العصر الرقمي، نحن لا نبحث عن الحقيقة، بل عن ما يؤكد كراهيتنا".
وهكذا تحوّلت المنصّات من فضاء للتواصل إلى مصانع انفعال، تُعيد تدوير السخط في شكل موجات كراهية متصاعدة. وتكون النتيجة هي أن الفرد لا يواجه الآخر المختلف فحسب، بل يواجه نسخة مشوّهة منه، صنعتها الخوارزميات، ودفعتها إلى واجهة الشاشة لتبرير مزيد من الغضب، والعدائية، وأكثر تهديدًا، ومزيد من الكراهية وأكثر اختلافًا مما هو عليه في الواقع. وبات الشباب جزءًا من ثقافة العنف الرمزي، الذي لا يقل خطورة عن العنف الواقعي، لأنه يمهّد له.
وهكذا تحولت الشاشات إلى جبهات قتال، ذخيرتها اللغة، الغضب يغذيها، فيكبر الشرخ، وتتصلّب الهويات، وباتت المجتمعات، خاصة الشباب، تعيش في حالة استقطاب مستمر ينتقل من العالم الافتراضي إلى الواقعي بسهولة مذهلة، وبذلك تحوّل الاختلاف في الرأي إلى معركة وجود.
في الأردن، كما في غيره من الدول، تظهر بعض موجات من الاحتقان الاجتماعي تأخذ شكل كراهية خفية تتجسد في بعض السجالات، والصور النمطية، والاستقطاب الرقمي. وقد يعود ذلك إلى الأزمات الاقتصادية الممتدة، وفجوة الثقة بين المواطن والمؤسسات، وغياب سردية وطنية جديدة واضحة، وتفاوتات طبقية، وشعور متزايد باللاجدوى، وتراجع في منظومة التعليم.
لكن الأخطر هو تطبيع الكراهية، بحيث تصبح جزءًا من المزاح اليومي أو التصنيف الاجتماعي أو الخطاب السياسي للبعض وغير المسؤول.
ان تراجع النظام التعليمي، وتراجع جودة مخرجات المؤسسات الأكاديمية، التي يفترض أن تكون حاضنة للعقل والعدالة والنزاهة، بسبب ظهور بعض القيادات أكاديمية غير الكفؤة في الآونة الأخيرة، حولت بعض البيئات التعليمية الى حضان للضغائن الناعمة، من خلال تحريف الحقائق وتضخيم الإنجازات، وصناعة أعداء وهميين داخل المؤسسات لتبرير الفشل وسوء الإدارة، فيتحول الزملاء إلى خصوم، والاختلاف إلى تهديد، ما يخلق شعورًا عميقًا بالظلم لدى الكفاءات الحقيقية، وهذا ما أشار اليه باولو فريري قائلاً "حين تُهزم المعرفة، ينتصر القمع".
ان هزيمة المعرفة ليست مجرد خلل إداري، بل زرع غير مباشر للكراهية داخل المجتمع الأوسع، لأن الجامعات تُخرِّج أفرادًا يحملون تجارب مشوهة عن مفهوم العدالة وعن الآخر.
ومع ذلك يمتلك المجتمع الأردني عناصر قوية لتفكيك مزاج الكراهية الرقمية، منها روح التكافل، وتجربة العيش المشترك، والقيادة الهاشمية المتسامحة عبر التاريخ، والوعي العام الرافض للانزلاق إلى العنف، ومنظومة القيم، التي تشكل أساسًا لبناء مجتمع متصالح مع نفسه، إذا توفرت الإرادة المؤسسية، ويضاف الى ذلك الإرادة الملكية القوية في اصلاح منظومة التعليم على كافة مستوياته.
يقول مالك بن نبي "المشكلة ليست في العالم، بل في قابلية المجتمع للاستعمار". ويمكن أن نعيد العبارة اليوم بصياغة جديدة المشكلة ليست في الكراهية الرقمية واسعة الانتشار، بل في قابلية المجتمع لاستقبالها.
ولأن الكراهية نتاج مسار طويل، فإن علاجها يحتاج إلى مسار أطول، يبدأ من إصلاح التعليم، ليس بتغيير المناهج فقط، بل بتغيير الفلسفة التربوية. واستعادة دولة القانون، فالعدالة الصارمة هي المضاد الحيوي الأكبر للكراهية، لأنها تلغي أي شعور بالتهميش أو الغبن. وبناء إعلام دولة مسؤول، إعلام يرى الحقيقة قبل الإثارة، ويعتبر المجتمع مركزيًا، لا طرفًا في صراع سياسي. والتمكين الاقتصادي، لأن العدالة الاقتصادية تخلق مجتمعًا أقل توترًا. وثقافة الاعتراف، وهي أعلى درجات الوعي، أن يرى الإنسان خطأه، وتاريخه، وصورته في المرآة قبل أن يحاكم الآخرين.
ولعلّ الأزمة الاردنية اليوم ليست أزمة سياسة، بقدر ما هي أزمة وعي مجتمعات امتلأت بالشعارات بالإنجازات، وقلّ فيها المعنى، وضعفت فيها الهوية الوطنية، وكثرت فيها الأصوات المرتفعة، التي يفتقد بعضها للحكمة.
لذلك، فإن الأردن بحاجة إلى كلمة جديدة، ومعنى جديد، وخطاب جديد يرسم فسيفساء اردنية وطنية، على الرغم من الانتشار الواسع لتطبيقات الخوارزميات التي تعمق الشعور بالاختلاف.
فمشروع محاصرة انتشار روح ثقافة الكراهية الرقمية، ليس مشروعًا عابرًا، بمشروع إعادة بناء للوجدان الوطني، من المدرسة إلى المسجد، ومن الإعلام إلى السياسة، ومن الفرد إلى الدولة.
حين ينتصر الوعي على الكراهية، ينتصر المجتمع على نفسه، ويبدأ التاريخ من جديد.