النسخة الكاملة

البشير يتحدث حول آلية اختيار أمين العاصمة وإرادة السكان

الخميس-2025-11-27 06:18 pm
جفرا نيوز -
كتب - م. عامر البشير

عندما فقدت بوصلتها
خمسة عشر عامًا مرّت على عمّان كما يمرّ الزمن فوق مدينةٍ أطفأت شيئًا من حواسّها؛ لا تحوّلَ حقيقيًا، ولا رؤيةً جامعة، ولا خيالًا يفتح نافذةً على المستقبل، مدن العالم تعيد تعريف ذاتها كل صباح، بينما بقيت عمّان واقفة في المكان نفسه، أسيرة فلسفة مرتجلة تُدار بالعلاقات بدل الكفاءة، وباللحظة بدل الخطة، وبالوظيفة بدل الوجدان.

هذا المقال لا يستهدف أشخاصًا، بل يُحاكم فكرة غابت، وعقلًا لم يُدرك يومًا سرّ المكان وقيمة الإنسان، هو محاولة لقراءة ما أفضت إليه خيارات متتالية في إدارة المدينة؛ مدينة كانت يومًا خلاصة المعنى الأردني، ثم غدت موضوعًا للنقاش في أروقة الحكومات بوصفها عبئًا لا مركزًا، حتى طُرِحت فكرة "عاصمة جديدة” بوصفها مخرجًا، في سلوك يُشبه الهروب من الإصلاح، وتسويق حلمٍ مؤجَّل أقرب إلى الوهم.
لم تباشر أي حكومة إصلاحًا حضريًا حقيقيًا، ولا عالجت انحراف المسار، وكأن بناء المدن مهمة سهلة، لا تحمل مخاطر الفشل، ولا تحتاج فلسفة لم توفرها الحكومات بالاساس لمدينة عمّان، في حين أن تجارب الدول الكبرى – بل حتى النفطية منها – تعثّرت في هذا المسار.

عندما يمرّ الزمن فوق مدينةٍ لا تستيقظ
مرّ الزمن على عمّان كما يمرّ طائرٌ مهاجر فوق حيٍّ نائم؛ لا يوقظ ساكنيه ولا يترك أثرًا يُذكر. مدن العالم تُغامر وتبتكر وتُعيد تشكيل ملامحها، بينما اكتفت عمّان بإدارة أزماتها بدل حلّها، واستبدلت الإنجاز بترقع ازمات المرور، والرؤية بمنصّات مُرتجلة، والمشروع بمبادرات لا تحمل معاني واضحة.
لم تكن أزمة عمّان أزمة اختيار أشخاص، بل أزمة فكرة لم تولد في وقتها، وفلسفة إدارية قامت على المجاملة بدل الجدارة، وعلى التوريث المؤسسي بدل الابتكار، وعلى "تسليك الامور” بدل صرامة المدن التي تعرف طريقها. هكذا أُديرت المدينة كغنيمة لا كقيمة، حتى تآكلت الهوية وبهتت روح المكان وذاكرته.

أربعة أنماط صنعت الفراغ
خيارات الحكومات المتعاقبة كرّست مسارًا جامداً اتّسم بالبرودة مبتعداً على الديناميكية.
1. المدينة كـ«ورشة بلا روح»
أفق هندسي جامد، يرى المدينة خطوطًا على الورق لا حياةً على الأرصفة، قرارات تُكتب خلف الأبواب المغلقة، مشاريع تُقاس بالسنتيمتر لا بالمعنى، فتولد ناقصة وتموت قبل اكتمالها.
2. رجل اللحظة
إدارة تقوم على الصوت العالي لا على الفكرة العميقة، على الحركة لا على الأثر، فخلّفت ضجيجًا أكبر من إنجازها.
3. مسرح البروتوكول
مدينة تُدار كعرضٍ دائم؛ أضواء وبيانات وصور، بينما الواقع يزداد فراغًا، عمّان لم تكن بحاجة إلى تلميع، بل إلى روح تُعيد تعريفها.
4. حين يصبح الصمت سياسة
مرحلة الانتظار والتكرار؛ بلا مشروع ولا اتجاه، المواطن تحوّل من شريك إلى رقم، وتقدّمت بعهدها الجباية على التخطيط، والتحصيل على الشراكة.

ليست أزمة أشخاص… بل غياب فلسفة
العقل الذي قاد المدينة لم ينظر إليها ككائنٍ حيّ، بل كملفٍّ إداري، لم يفهم أن المدن تُدار بالقانون والرؤية والحلم معًا، لا بالمجاملة ولا بالحلول المؤقتة، سنوات طويلة راكمت الفراغ، وأرهقت السكان، وحيّدت الكفاءات، وبعد أربعة مسارات متتالية، بات واضحًا أن الخلل ليس في الأسماء، بل في الفكرة التي صنعتها.

عمّان دفعت ثمن الفكرة الغائبة
المشكلة لم تكن في شارعٍ لم يُنجز، ولا في مشروعٍ تأخّر، بل في فلسفةٍ لم تُولد، مدن العالم تُدار بالعقل الجمعي، بالتخطيط بعيد المدى، وبالشراكة بين السلطة والمجتمع، في عمّان، ساد منطق التسليم والتأجيل، فصار الزمن يسبقها لا العكس، ولهذا فإنها بالتأكيد لا تحتاج تجارب جديدة، بل فلسفة جديدة.

حزن عمّان… ليس حزن حجر
ما يؤلم عمّان ليس الإسفلت، بل الفكرة؛ ليس الجدران، بل المعنى، من احتكروا قرارها رأوا المنصب لا الزمن، والكرسي لا المدينة، عمّان لا تحتاج شارعًا جديدًا بقدر ما تحتاج وجدانًا حيًا، وتخطيطًا عمرانيًا وبُعداً إنسانياً، وخيالًا سياسيًا يعيد وصلها بذاتها.

هل يحق لعمّان أن تستردّ مكانتها؟

بعد خمسة عشر عامًا من التجربة والخطأ، وفي ظل غياب رؤية مستدامة، يحق لعمّان أن تسأل: من يحمل مشروعها لا ختمها؟
قد يختلف السّكان حول آلية اختيار أمين العاصمة، لكن التجربة العالمية أثبتت أن المدن الحية تُدار بإرادة سكانها، لا بقرارات فوقية، حين يُمنح الناس حق الاختيار، فإنهم لا يختارون الصوت الأعلى، بل الضمير الأقرب،

المدينة التي تستعيد صوت أهلها لا تستعيد زمنها فقط، بل تصنع زمنًا جديدًا؛ زمنًا يليق بعمّان، عاصمة الهاشميين، وذاكرة الأرض والنّاس، فالديمقراطية في المدن ليست نظامًا سياسيًا فحسب، بل أسلوب حياة: شراكة لا جباية، ثقة لا شكّ، ومسافة صحيحة بين السلطة والمجتمع.

عندها فقط، تستعيد المدينة إيقاعها، ويستعيد الناس كرامتهم، ويستعيد الزمن معناه.

ما الذي يجب أن يكون؟

يمكن لعمّان أن تكون مدينةً لا تعتذر عن أحلامها، ولا تخجل من طموحها، مدينة تُدار بعقلٍ مفتوح لا بعقلٍ خائف، وبشراكةٍ حقيقية لا بعلاقة وصاية، يمكن لها أن تتحوّل من مساحة تُدار بالأوامر إلى فضاء يُبنى بالتوافق، من مدينة تُدار من فوق إلى مدينة تُدار مع أهلها.

يمكن لها أن تستعيد دورها بوصفها عاصمة تُلهم لا تُرهق، تحتضن الإنسان لا تُقصيه، تُخطّط للمستقبل كما تحفظ الذاكرة، وتعيد الاعتبار لفكرة أن المدينة ليست مشروعًا هندسيًا… بل كيانًا أخلاقيًا ووجدانياً حيًا.

وعندها فقط، لا تعود عمّان مدينةً فاتها الزمن، بل مدينةٌ يُعاد فيها تعريف الزمن من جديد.
عمّان لا تحتاج مزيدًا من الشعارات، ولا الخطابات تُعيد تدوير اخفاقاتها، بل تحتاج قرارًا سياسيًا شجاعًا يعترف بأن ما جرى لم يكن عابرًا، وأن ما فشل لم يكن أشخاصًا، بل منهجًا كاملًا في إدارة العاصمة، المدن التي تُدار بعقل مؤقت تُستهلك، والدول التي تخشى إصلاح عاصمتها تُضعف قدرتها على صناعة المستقبل.

لم تعد الأزمة في شارعٍ أو نفقٍ أو مشروعٍ مؤجل، بل في غياب الخيار الديمقراطي الحقيقي في إدارة المدينة، وفي احتكار القرار الحضري بجرّة قلم، بعيدًا عن السكان الذين يفترض أن يكونوا أصحاب الحق والقرار، فعمّان لا تُنقذها البيانات، بل مؤسسات حيّة، وانتخابٌ مباشر يحمل المعنى لا الصورة، وإدارة تُصاغ مع الناس من فوق رؤوسهم.

إن استعادة عمّان ليست ترفًا سياسيًا، ولا مطلبًا نخبويًا، بل ضرورة وطنية، ومن لا يملك الشجاعة لإعادة القرار لأهل المدينة، سيبقى شاهدًا على أفولها، لا صانعًا لنهضتها.
فالمدن التي تُصادر إرادة سكانها، تفقد روحها، والدول التي تخنق عواصمها إداريًا، تعلن فشلها الأخلاقي قبل السياسي.

هذا المقال يُطرح في سياق النقد للسياسات العامة والإدارة الحضرية، انطلاقًا من الحق الدستوري في حرية الرأي والتعبير، ويُعبّر عن قراءة فكرية عامة دون توجيه اتهامات لأشخاص طبيعيين أو اعتباريين، ودون قصد الإساءة أو التشهير، بل دفاعًا عن حق المدينة في الحياة، وحق سكانها في القرار، وحق الوطن في عاصمة تليق به.


© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير