النسخة الكاملة

السردية الأردنية بين الذاكرة الوطنية والنصوص الدستورية

الثلاثاء-2025-11-25 10:06 am
جفرا نيوز -
أ. د. ليث كمال نصراوين

وباستمرار التعمق في علاقة السردية الأردنية بالنصوص الدستورية، يتبيّن أن الدستور الأردني قد جاء ليكرّس مساراً تاريخياً وسياسياً واجتماعياً تراكم عبر عقود، وتجسّد في نصوص مكتوبة تعكس شرعية العرش الهاشمي، والمبادئ التي قامت عليها الدولة الأردنية من مساواة ومواطنة وسيادة قانون، وكفالة للحقوق والحريات، إلى جانب الدور التاريخي الأصيل للجيش العربي في حماية الوطن. وبهذا المعنى، تغدو كتابة السردية الأردنية عملاً موازياً لقراءة الدستور وتفسير أحكامه، إذ لا تنفصل الحكاية الوطنية عن هذه القواعد التي منحتها الصياغة الدستورية قوتها ومكانتها.

ويأتي في مقدمة هذه الأحكام نظام انتقال العرش في المملكة الأردنية الهاشمية كما تقرره المادة (28) من الدستور، التي تنظم وراثة العرش وشروط من يتولاه وكيفية انتقاله في إطار النظام النيابي الملكي الوراثي. فهذا النص لا يقتصر على تحديد آلية لتوارث العرش، بل يختزل سردية تاريخية ممتدة، تستمد جذورها من الثورة العربية الكبرى ومشروعها في التحرر والوحدة والنهضة، ومن البيعة التي قدمها أبناء شرق الأردن للملك المؤسس عبد الله الأول عند قدومه إلى البلاد وتأسيس إمارة شرق الأردن، ومن الدور الذي اضطلعت به القيادة الهاشمية في حماية الكيان الأردني وتثبيت حدوده ومؤسساته.

ويفسر هذا الارتباط التاريخي استقرار نظام الحكم في الأردن وقدرته على مواجهة الأزمات الخارجية المتلاحقة دون أن يفقد شرعيته أو ينقطع عن جذوره؛ فالتوارث في العرش ليس مسألة شكلية، بل هو أداة لضمان استمرارية الشرعية التاريخية لحكم ديمقراطي يقوم على مبدأ أن الأمة هي مصدر السلطات. وهنا يلتقي الامتداد التاريخي للدولة مع إطارها الدستوري المعاصر، فتغدو السردية الأردنية وسيلة لفهم النصوص، ويصبح النص الدستوري بدوره أداةً لترسيخ هذه السردية في وعي الأجيال القادمة.

وإلى جانب شرعية العرش، تبرز المادة السادسة من الدستور محطة محورية في السردية الأردنية؛ إذ تنص على مساواة الأردنيين أمام القانون بلا تمييز في الحقوق والواجبات، لترسخ بذلك مفهوم المواطنة المتساوية وسيادة القانون. لقد قامت الدولة الأردنية على مكونات اجتماعية متنوعة في أصولها ومنابتها، إلا أن توحدها في إطار وطني جامع اقتضى إقرار نموذج دستوري يرتكز على المساواة وتكافؤ الفرص، ويجعل الانتماء للدولة هو الرابط الأساس بين أفراد المجتمع.

والمواطنة هنا ليست مجرد صفة قانونية تمنحها الجنسية، بل هي رابطة حقيقية تستند إلى حقوق وواجبات وشعور بالانتماء والمشاركة. ومن ثمّ، فإن أي سردية وطنية للأردن لا بد أن تتوقف عند هذا الانتقال من الروابط الأولية إلى رابطة مواطنة راسخة انعكست في النصوص وتجلّت في الممارسة.

أما سيادة القانون، بوصفه مبدأ أساسياً يحكم إدارة شؤون الدولة، فهو التعبير الدستوري عن قناعة راسخة بأن الدولة الحديثة لا تستقيم إلا بخضوع الحاكم والمحكوم للقواعد ذاتها. وينبغي أن ينعكس هذا المفهوم في توثيق السردية الأردنية عبر إبراز انتقال المجتمع من فضاء الممارسات والتقاليد العرفية المتعددة إلى ولاية دولة قوية يتولى الدستور والقوانين فيها تنظيم العلاقة بين الأفراد والسلطة العامة، بحيث يغدو القانون لغة التعاقد بين المواطن والدولة وأداة لحماية العدالة والإنصاف.

ويتكامل هذا التصور مع الباب الخاص بحقوق الأردنيين والأردنيات وواجباتهم، حيث يكفل الدستور الحرية الشخصية، ويمنع توقيف الأفراد أو حبسهم إلا وفق أحكام القانون، ويضمن حرية الرأي والتعبير والصحافة والاجتماع وتأسيس الجمعيات والأحزاب في حدود القانون. فهذه الأحكام ليست استجابة شكلية لمتطلبات الدولة الحديثة، بل امتداد لسردية تاريخية للدولة الأردنية اختارت أن تبني علاقتها بمواطنيها على أساس احترام الكرامة الإنسانية وتكريس الحريات الأساسية.

وفي موازاة ذلك، يحتل الجيش العربي موقعاً مركزياً في السردية الأردنية وفي النص الدستوري معاً. فمنذ نشأته، لم يكن الجيش مجرد قوة عسكرية تتولى حماية الحدود أو صدّ الأخطار الخارجية، بل كان أحد أهم أدوات بناء الدولة الحديثة، أسهم في ترسيخ الأمن الداخلي، وتعزيز سلطة القانون، وصون استقلال البلاد في محيط إقليمي مضطرب.

وقد جاءت النصوص الدستورية المنظمة للقوات المسلحة لتكرّس هذا الدور، فصوّرت الجيش مؤسسة وطنية جامعة مرتبطة بالقيادة العليا للدولة، ومهمتها حماية الوطن والنظام الدستوري بعيداً عن التجاذبات السياسية. ومن هنا يغدو الحديث عن الجيش ركناً أساسياً في كتابة السردية الأردنية، لأنه يكشف كيف ارتبط حفظ الأمن والدفاع عن الوطن ببقاء الدولة واستمرار مشروعها السياسي. ولا تكتمل هذه السردية دون إبراز الدور البطولي للجيش العربي المصطفوي في الدفاع عن القدس، والتضحيات التي قدمها منتسبوه الذين اختلطت دماؤهم الطاهرة بتراب فلسطين.

وعند جمع هذه العناصر معاً - شرعية العرش، ومبادئ المساواة والمواطنة وسيادة القانون، ودور الجيش العربي - يتضح أن السردية الأردنية ليست عملاً تاريخياً بحتاً، بل إطاراً يرتبط بالنصوص الدستورية ارتباطاً وثيقاً، يوجّه قراءتها ويعكس مضمونها على توثيق التاريخ الوطني.

ومن هذا المنظور، فإن مبادرة سمو الأمير الحسين ولي العهد إلى إبراز هذه السردية تمثّل جهداً لحماية الدستور من القراءات المبتورة، ولترسيخ وعي عام يدرك أن شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وانتماءها العربي والإسلامي، ومرتكزاتها المؤسسية، لم تكن خيارات عابرة، بل ثمرة مسار طويل من التضحيات والخيارات الكبرى التي صاغت ملامح الأردن في مئويته الأولى وما بعدها.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير