جفرا نيوز -
علي ابو حبلة
في لحظة إقليمية معقدة تتقاطع فيها الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، جاء خطاب العرش لجلالة الملك عبدالله الثاني أمام مجلس الأمة العشرين، بمثابة بيان استراتيجي شامل أعاد تأكيد هوية الدولة الأردنية وموقعها في معادلة الإقليم، مستنداً إلى إرث من الثبات والعقلانية السياسية التي ميّزت المملكة منذ نشأتها.
العبارة التي تصدّرت الخطاب، «نعم، يقلق الملك، لكنه لا يخاف إلا الله»، لم تكن مجرد تعبير وجداني، بل رسالة عميقة عن وعي القيادة بعمق التحديات دون التفريط بالثقة أو السيادة. فالقلق هنا ليس ضعفاً، بل يقظة الدولة في مواجهة عالم متغير، والاعتماد على الشعب كركيزة الأمن والاستقرار: «ولا يهاب شيئاً وفي ظهره أردني.»
البعد الداخلي: الإصلاح كعنوان الثقة
داخلياً، أعاد الملك رسم الأولويات الوطنية بالتركيز على التحديث الاقتصادي والسياسي والإداري، داعياً الحكومة إلى تقديم نتائج ملموسة تمس حياة المواطن اليومية.
فالإصلاح في الرؤية الملكية ليس مشروعاً موسمياً، بل مساراً مستمراً يرتبط بتعزيز الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
أوضح الملك أن تطوير التعليم والصحة والنقل والقطاع العام ليس ترفاً، بل شرط لبقاء الدولة قوية وقادرة على مواجهة التحديات.
بهذا، وضع الملك معادلة الاستقرار الحقيقي: لا أمن بلا عدالة، ولا شرعية دون إنجاز.
البعد الإقليمي: الأردن في قلب العاصفة بثبات الإرادة
على الصعيد الإقليمي، قدّم الخطاب قراءة دقيقة لواقع مضطرب تعيشه المنطقة، من اشتعال جبهات غزة والضفة الغربية إلى تصاعد التوتر في البحر الأحمر وسوريا والعراق.
ورغم هذه التحديات، أكد الملك أن الأردن باقٍ على ثوابته، صامد رغم الضغوط، ومحصّن بإرادة أبنائه.
قوله: «تغيّرت الأزمات وبقي الأردن قوياً»، هو إعلان ثقة بأن الدولة الأردنية، بحكمتها واستقرارها، ما زالت تمثل نقطة توازن في محيط مشتعل، وأنها قادرة على التفاعل مع الأحداث دون أن تُجرّ إليها.
البعد الدولي: استقلال القرار الأردني
على المستوى الدولي، وجّه جلالة الملك رسالة واضحة للعالم مفادها أن الأردن لن يكون تابعاً لأجندة أحد.
فسياساته الخارجية المتوازنة نابعة من إدراكه أن حماية المصالح الوطنية لا تكون بالارتهان للمحاور، بل بالتوازن والاحترام المتبادل.
لقد شدد الملك على أن الأردن سيبقى شريكاً في السلم، لا أداة في الصراع، وأنه يمارس دوره الدبلوماسي بثقة الدول التي تدرك مكانتها وتدافع عن قراراتها بسيادة كاملة.
القضية الفلسطينية: الثابت الاستراتيجي
الموقف الأردني من القضية الفلسطينية كان ولا يزال عمود السياسة الخارجية للمملكة.
أكد الملك وقوف الأردن الكامل مع الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، قائلاً: «سنقف إلى جانبهم بكل إمكانياتنا، وقفة الأخ مع أخيه.»
ووصف ما يجري في غزة بـ»الكارثة»، موجهاً انتقاداً غير مباشر للعدوان الإسرائيلي، ومؤكداً استمرار إرسال المساعدات الإغاثية والطبية.
كما جدّد جلالته التأكيد على الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، باعتبارها مسؤولية تاريخية لا تخضع للمساومة أو التسييس.
الرسالة كانت واضحة لإسرائيل: القدس خط أحمر، والانتهاكات في الضفة لن تمرّ بصمت.
الأردن... قلق الوعي وثقة السيادة
خطاب العرش هذا العام لم يكن مجرد تقليد دستوري، بل بيان موقف وطني شامل.
فالملك لم يُخفِ القلق، لأنه قلق القائد المسؤول عن دولة وسط محيط متلاطم، لكنه أكد أن الأردن لا يخاف، لأنه يستند إلى شعبه، وإلى تاريخه الذي صاغته مواقف الرجال لا تقلبات المصالح.
الرسالة الجوهرية للخطاب كانت:
الأردن ثابت، لا يساوم على القدس، لا يخضع للابتزاز، ولا يتنازل عن دوره العربي والإنساني.
وفي زمن الانقسام العربي وتبدّل التحالفات، يظل الأردن صوت التوازن والعقلانية، وجدار الصمود الأخير في وجه فوضى الإقليم.