جفرا نيوز -
عامر طهبوب
فراقك صعب، ما بَعدك لا يشبه ما قبلك، سفرك لا يشبه الوصول، وغيابك لا يجانس الحضور، لكنك غائب موجود، تُطِلُّ عليّ كل يوم، بقيت غرسة يانعة في أرض المكان عمرها ثلاثين عاماً، نبتة خضراء لا تشيخ، ولَهاً يُلاحق السّراب، طُرفة على كل لِسان، وحكاية سرمدية تخَلّد أغلى إنسان على قلبي، ضحكة تزلزل البيت، دندنة كلمات أغنية من لحنك الصاخب، غمامة رمادية تخادع المطر، كيف لمثلك أن يرحل، وكيف للندى أن يَهجُر عند الفجر أغصان الشجر، وكيف للسنونو الوفيّ أن يُهاجِر دون أن يرسم طريق العودة حتى لو كانت العودة مستحيلة.
هل تظن أنك رحلت؟ والله لم تغب يوماً عن الحضور، ولم تغب رغم الغياب، تركت أثراً وبصمة، وتركت صوتاً وسوطاً، وعطفاً ولُطفا، وتركتَ خلفك أسئلة، وقد حارت في غياب حضرتك كل الأجوبة.
قل من بعدي وقد أكثرتُ من بَعدك في ترديد الحَوقَلَة: «لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، له الملك، وله الأمر من قبل ومن بعد، وهو على كل شيء قدير». لا يفهم حكمته إلا هو، وليس لنا إلا أن نُسلّم بمشيئة هذا الخالق الذي نحب ونعبد، وقد شاء أن يأخذك إلى جواره، وأن يشملك بإذنه بعفوه ورضاه، بل أن يمنحك السكينة، سكينة الخلود، والرقود بجوار الصالحين والأبرار.
صوتي كنت أنت، وسوطي، ومهجتي، وسندي حيث لا سند إلاك، وظهري ولا ظهير غيرك، ولا بد لك أن تعود، عُد ثانية كالعنقاء من تحت الرماد، عُد مُبَجّلاً مُجَلجِلاً مُتلألئاً كقرنفلة، عُد مع المسيح مظفّراً عند جبل الجُلجُلة، أو عُد كفكرة صوفيّة في صباح الحمد أو عند البسملة، عُد يا محمد، فالعود أحمد، غيابك كسرٌ للظهر، وقهر التنائي لا يشابه كل قهر.
مر عام كما ترى، لكنه لا يشبه الأعوام، هل تدري أن أهل غزة الآن يموتون جوعاً وعطشاً، لعلك لا تدري، هل تدري أن داء الكوليرا عاد للتفشي من جديد بعد عقود طويلة ظننا خلالها أنه انقرض، ذلك ما أغبطك عليه، أنك لا تدري، وقد كنت تدري، وتحزن، وتشكو الحال، ولكن ما حدث بعد أن شططتّ عن صفحة الحياة، لا يشبه ما تعرفه قبل الرحيل، أهل غزة يجوعون، يموتون جِلداً وعظماً، يسقطون في الشوارع، ليس بفعل البارود فقط، ولكن بفعل الجوع الكافر، ولا أظنك كنت تحتمل أن ترى الناس يموتون جوعاً على هذا النحو من الخَسف البشري الجائر، ولعلها مشيئة الله أن يجنبك الألم الذي أجزم أنك لا تقوى على احتماله.
الله أرحم، الله أولى بعباده، ولعله أكرمك، ولعله أكرمني، غسّلتك بيدي، وقبّلت رأسك، وصلّيت عليك مع المصلّين، ومهّدت لك مثواك، ووضعت لك شاهداً، وترحّمت عليك، وأهل غزة لا يعرفون موتاهم، ولا يعرفون كيف يجمعون أشلاء قتلاهم في تراب هو ترابهم، وليس في تراب الشتات، يموتون جوعاً ولا يملكون الفتات.
نم في سكينة وسلام، يا محمد، نم ولا تستيقظ، هل قلتُ عُد؟ لا تسمع كلامي، إنها العاطفة، وحمى الحنين، نشيج الأنين، والشوق إلى ذكريات السنين، نغم حزين، وشحوب ليالٍ تُشبه همهمات العابرين، العقل لا يرضى لك العودة، الروح زكية باقية خالدة، وأنت حاضر رغم قسوة السفر، لا تَعُد، لا تَعُد إلى هذا السّعير الذي لا تطيق فيه عيشاً، لا تَعُد لتختنق بهذا الكون المُهين، لا تَعُد لمثل هذا اللّظى، وجحيم الشّظى، والتصق بكنف ربك ورحمته، وهو أرحم الراحمين، لعلّنا نلتقي في رحاب الخالق العظيم، وسنبقى على موعد عند سلطان رحيم. نم يا حبيبي، إني أراك في قلبي نائماً متيقظاً، تهزُّ سريري: صباح الخير يا أبتِ !