جفرا نيوز -
حضر الرئيس الصيني شي جين بينغ، إلى جانب زعماء من دول العالم، صباح الأربعاء عرضا عسكريا مهيبا في ميدان تيان آن من ببكين، للاحتفال بانتصار الصين والانتصار الجماعي للأمم التي تغلبت على الفاشية قبل ثمانين عاما.
ومن على منصة تيان آن من، ألقى شي كلمة بمناسبة الذكرى الـ80 للانتصار في حرب المقاومة الشعبية الصينية ضد العدوان الياباني والحرب العالمية ضد الفاشية، حيث دعا الدول في جميع أنحاء العالم إلى القضاء على الأسباب الجذرية للحروب وتجنب تكرار المآسي التاريخية.
وقال شي إنه يمكن فقط الحفاظ على الأمن المشترك حينما تقرر الدول في جميع أنحاء العالم معاملة بعضها البعض على قدم المساواة، والعيش في تناغم، وتقديم الدعم المتبادل لبعضها البعض.
وبالنسبة لـ شي، فإن هذا الاحتفال الرسمي ليس مجرد تكريم للتاريخ، بل هو رسالة تحمل رؤية للمستقبل، حيث يمكن للبشرية أن تتقاسم بسلام عالما أكثر عدلا وإنصافا وازدهارا.
************
رسالة من الشرق الأوسط: غزة ... عشرون عاما بين الأمل والألم تحت الحصار والحروب
بقلم: عماد الدريملي
قبل عشرين عاما، وقفت بين حشود الفلسطينيين الذين ملأوا شوارع غزة في 12 سبتمبر من العام 2005، يلوحون بالأعلام ويغنون احتفاء بانسحاب آخر جندي إسرائيلي من قطاع غزة.
كانت أصوات الأهازيج تختلط بزغاريد النساء، ودموع الفرح تغطي وجوه مسنين أنهكهم الانتظار، بينما الأطفال يركضون بحرية للمرة الأولى فوق أرض كانت قبل ساعات محاطة بالأسلاك الشائكة.
كان ذلك اليوم بالنسبة لكثيرين لحظة ميلاد وعهدا جديدا، وبداية لتحقيق حلم الدولة الفلسطينية، لكنه بالنسبة لصحفي شاب بدا أنه أيضا اختبار لما إذا كان هذا المكان سيحيا أخيرا خارج الاحتلال المباشر.
-- بين الفرح المؤقت والخيبة الطويلة
في ذلك الصباح من سبتمبر 2005، وثقت بالكاميرا ودفتر ملاحظاتي مشاهد انسحاب الجيش الإسرائيلي من المستوطنات المحصنة التي أقامها في قلب غزة.
ومع الانسحاب رأيت نساء يزغردن، إحداهن، مسنة ترتدي الثوب الفلسطيني التقليدي، أمسكت بيدي والدموع تملأ عينيها، وهي تقول "تنفسنا أخيرا… هذا يوم عيد … انتهى الاحتلال احكي للشباب يحافظوا على الأرض".
كانت كلماتها أشبه بوصية، وربما بنبوءة لما سيكون عليه الأمر إذ لم يطل الفرح كثيرا.
بعد أشهر فقط، بدأت معالم المرحلة الجديدة بالظهور، حيث بدا أن القطاع يقف على مفترق طرق. فالانتخابات التشريعية عام 2006 وما تبعها من انقسام دموي عام 2007 بين حركتي التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) والمقاومة الإسلامية (حماس) لم يكن مجرد حدث سياسي عابر، بل حقبة فاصلة غيرت وجه غزة.
-- الحصار يغير تفاصيل الحياة
سرعان ما وجدنا أنفسنا تحت حصار مشدد أغلقت فيه المعابر واشتدت القيود على السفر والعلاج وحتى الحصول على أبسط مقومات الحياة.
كان من الصعب على صحفي يعيش بين الناس أن يظل مجرد مراقب. كنت أرافق مرضى لم يتمكنوا من مغادرة غزة لتلقي العلاج، وأشهد أمهات ينتظرن على الحواجز عبثًا.
في تلك السنوات بدأنا نفهم أن الحصار ليس مجرد إجراء سياسي، بل حكم بالسجن الجماعي على أكثر من مليوني إنسان.
فالحصار على غزة شمل كل تفاصيل حياتنا اليومية، لا نرى الكهرباء والماء إلا ساعة أو ساعتين يوميًا، طوابير طويلة لعبور معبر رفح، اقتصاد يتداعى مع شح المواد، وبطالة تجاوزت نصف الشباب.
ومع ذلك، ظل الناس يبحثون عن الحياة: حفلات زفاف في أزقة ضيقة، مقاهٍ مزدحمة، حركة بناء متواضعة رغم احتمال القصف، وأطفال يركلون ويلعبون الكرة وسط الركام.
كنت أشاهدهم وأتساءل: كيف يمكن لضحكة طفل أن تقهر دخان الحرب؟ وكيف يمكن لزهرة صغيرة على شرفة مهدمة أن تعلن انتصارها على الدبابات؟.
ذلك التناقض كان جزءا من هوية قطاع غزة: مدن تعلن الحياة رغم الموت، وفي الوقت نفسه، تزداد الضغوط السياسية والاجتماعية على السكان يوما بعد يوم، دون أي أفق لحل الصراع أو تخفيف المعاناة.
في الصورة الملتقطة يوم 26 أغسطس 2014، فلسطينيون يتفقدون أنقاض مبنى مرتفع تم تدميره، عقب غارات جوية إسرائيلية على مدينة غزة. (شينخوا)
-- حروب متتالية
بين عامي 2008 و2021 اندلعت مواجهات عسكرية دموية عنيفة بين الفصائل الفلسطينية المسلحة وإسرائيل، ترك كل منها ترك ندوبًا وجروحا أعمق من سابقتها.
وفي كل واحدة منها كنت في الميدان، أتنقل بين الأحياء المستهدفة وأوثق بيوتا مدمرة ووجوها مذهولة وأطفالا يبحثون بين الركام عن ألعابهم المفقودة.
أتذكر أول مرة رافقت طواقم الإسعاف تحت القصف، كيف كان صراخ الأطفال يعلو على أصوات الانفجارات. في 2014 عشت أياما شعرت خلالها أن الموت يلاحقني في كل لحظة. غارات جوية لا تهدأ، شوارع تحولت إلى أنقاض، وآلاف الأسر المشرّدة تبحث عن مأوى في مدارس مكتظة.
كنت أعود إلى بيتي منهكا، لكنني بالكاد أجد فرصة للراحة، إذ كنت أستيقظ على أسئلة أطفالي: لماذا يحدث كل هذا؟ هل سننجو؟ لم أكن أملك إجابات مقنعة سوى أن أطلب منهم التمسك بالأمل.
في إحدى المواجهات قصف الطيران الإسرائيلي منزل جيراني الذي تهدم فوق رؤوس ساكنيه. كنت أول من وصل بعد القصف، الكاميرا بيدي والصدمة تشل خطواتي. لم أكن مجرد صحفي ينقل صورة أو حدث، بل جار يعرف أسماء الضحايا واحدا واحدا.
في كل مرة كنت أعود إلى بيتي متأخرا، يسألني ابني الصغير "بابا، هل يمكن أن يقصفوننا الليلة؟"؛ لم أجد إجابة سوى أن أحتضنه بقوة، كمن يحاول مواجهة قنبلة بصدره.
-- أكتوبر.. بداية حرب لا تنتهي
كل شيء تغير صباح السابع من أكتوبر 2023. الهجوم الذي شنته حماس على جنوب إسرائيل تبعه رد عسكري غير مسبوق، إذ لم يتوقف القصف يوما واحدا. البيوت دُمّرت على ساكنيها، المستشفيات خرجت عن الخدمة، والنزوح أصبح القاعدة لا الاستثناء.
لم ندرك أن ما ينتظرنا لم يكن سوى بداية لكابوس طويل. في كل مرة توهمنا أن القصف سيتوقف قريبا، كان يزداد عنفا واتساعا. لم يكن هناك مكان آمن.
خلال سبعة شهور في الحرب في غزة، عشت الصحافة والمأساة معًا. كنت أكتب وأبث الأخبار طوال الوقت، وأحاول في الليل أن أكون أبًا يحمي عائلته من الرعب والجوع. رأيت أصدقاء وزملاء يسقطون أمامي؛ بعضهم قضى تحت القصف، وآخرون أصيبوا وهم يوثقون الحقيقة بعدساتهم.
ما زلت أذكر جيدا تلك الليالي الطويلة التي قضيناها بلا كهرباء ولا ماء، نسمع صوت الطائرات الذي لا ينقطع، ونحصي الانفجارات في الأحياء القريبة. كنت أحاول أن أبدو قويًا أمام أطفالي، لكنني كنت أعلم في داخلي أننا جميعًا نعيش على حافة موت محتمل.
نزحت مع عائلتي ثلاث مرات، متنقلا من مدينة إلى أخرى، ومن منزل إلى مدرسة، ثم إلى خيمة تتطاير مع الرياح وسط قطاع غزة. وفي كل مرة كنا نحمل أمتعتنا المتواضعة، ووجعا متجددا باستمرار.
في الخيام التي انتشرت كمعسكرات ومخيمات بديلة في كل مكان، عشنا ليالي طويلة من البرد والجوع. رأيت أطفالا يرتجفون تحت أغطية بالية، وأطباء يعتذرون للأمهات لأن الدواء مفقود.
كنت أنظر في عيون المرضى فأرى فيها سؤالا صامتا "هل يعرف العالم أننا نموت هنا ببطء؟".
لأول مرة في حياتي المهنية شعرت أن الخط الفاصل بين الصحفي والإنسان قد انهار تمامًا. لم أعد فقط من ينقل معاناة الآخرين، بل أصبحت جزءا منها. أصبحت أنا النازح، المهدد، المشرد مثل الذين أكتب عنهم. أدواتنا صارت تشبه أرغفة الخبز: قليلة، محترقة وملوثة بالرمل، ولكنها ضرورية للبقاء.
منذ نزوحنا الأول، أصبح الليل كابوسا دائما مع أزيز الطائرات من كل الأنواع، ننام وأسرتي على الأرض، كلما سقط صاروخ قريب، يقفز الصغار من نومهم، يلتفون حولي وكأن حضني قادر على حمايتهم من السماء المشتعلة.
أصعب اللحظات كانت تلك الليلة التي سقط فيها والدي مريض القلب والسكري المزمن. حملته مع أشقائي وأولادي وركضت بين الشوارع المدمرة إلى أقرب مستشفى ميداني. هناك، اعتذر الأطباء بعيون كسيرة "لا دواء… لا محاليل… ليس لدينا سوى الماء وبعض المسكنات".
عدت به إلى مكان نزوحي، وجلست طوال الليل أراقب أنفاسه بخوف من أن تتوقف فجأة.
ومن أكثر اللحظات قسوة كانت حين سمعت ابني الأكبر يهمس لأشقائه "لو مت، قولوا لأبي إني أحبه كثيرا". كلماته اخترقتني كسكين. بكيت بصمت تلك الليلة، غير قادر على إخفاء خوفي الحقيقي. فلأول مرة أدرك أطفالي أنني لست قادرا على حمايتهم.
-- حياة جديدة بظل الذكريات
لم أكن أتخيل أنني سأغادر غزة يوما مجبرا ومضطرًا. لكن بعد اشتداد القصف المتواصل والنزوح المتكرر، أدركت أن بقائي لم يعد خيارا، خاصة مع تزايد المخاطر على عائلتي.
لم يكن الرحيل سهلاً. لحظة الخروج عبر معبر رفح إلى القاهرة كانت أشبه بانتزاع جزء من الروح، حيث تركت خلفي أشقائي وأصدقاء فقدتهم في الحرب، وآخرين لم أستطع حتى توديعهم، وبيتي وأرضي المدمرة. كنت أحمل حقيبة صغيرة فيها بعض الأوراق والمستندات، وكأنني أحمل ما تبقى من حياتي في حقيبة يد.
في القاهرة، الحياة تبدو طبيعية وهادئة، وربما أعيش ما يسميه البعض "راحة مؤقتة"، لكنها ليست راحة حقيقية. فكل خبر عاجل من غزة يوقظني حتى بعد منتصف الليل، أفتح هاتفي لأطمئن على الأهل والأصدقاء، وأشعر بثقل الغياب والذنب في آن واحد؛ فقد نجوت، لكن كثيرين لم يتمكنوا من النجاة.
اليوم، وأنا أكتب من بعيد، أنظر إلى السنوات العشرين الماضية بعيون مختلفة، فغزة التي في القلب والوجدان ليست مجرد مكان نعيش فيه، بل عنوانا لحلم الفلسطينيين بالحرية والاستقلال، يجمع بين الألم والصمود، وبين الخوف والأمل.
ومع ذلك، يبقى أعظم إرث نتركه لأبنائنا ليس البيوت ولا الأرض فقط، بل القدرة على الحلم، حتى لو بدا مستحيلا.■
ــ العالم بحاجة إلى العدالة
وقبيل بدء المراسم، صعد شي وقادة العالم إلى منصة تيان آن من، وصافحوا قدامى المحاربين الصينيين بالتناوب. وبعد لحظات، وتحت أنظار شي، سارت قوات جيش التحرير الشعبي الصيني بمختلف تشكيلاتها عبر هذا الميدان الشاسع.
وكانت تلك النظرة نفسها حاضرة في مايو الماضي، عندما شاهد قوات جيش التحرير الشعبي الصيني تسير عبر الساحة الحمراء في موسكو خلال إحياء الذكرى الـ80 للحرب الوطنية العظمى للاتحاد السوفيتي. عقب ذلك بوقت قصير، انضم شي إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقادة آخرين لوضع أكاليل الزهور الحمراء على قبر الجندي المجهول بجوار سور الكرملين، ووقفوا في صمت حدادا على أرواح الذين سقطوا في الحرب ضد الفاشية.
قبيل الرحلة، نشر شي مقالا موقعا في صحيفة ((جازيت)) الروسية بعنوان "التعلم من التاريخ كي نبني سويا مستقبلا أكثر إشراقا". وكتب: "العالم بحاجة إلى العدالة، لا إلى الهيمنة."
فدعوة شي لها جذور في التاريخ. ففي عام 2017، وخلال زيارة إلى النصب التذكاري للمؤتمر الوطني الأول للحزب الشيوعي الصيني في شانغهاي، توقف شي أمام ثلاث صور تجسّد معاناة الصين قبل أكثر من قرن، وهم: رسم كاريكاتوري من أواخر عهد أسرة تشينغ يصور القوى الأجنبية وهي تقسّم الصين، وجدول بالتعويضات الباهظة التي أُجبرت الصين على دفعها، وانتقاد لاذع من كارل ماركس لعزلة الصين وتقاعسها آنذاك.
وقال شي: "يا له من إذلال! يا له من عار! كانت الصين آنذاك خروفا سمينا ينتظر الذبح".
وقد مهد انتهاء الحرب العالمية ضد الفاشية، أو الحرب العالمية الثانية، الطريق لإعادة ولادة النظام الدولي. ومن بين أنقاضها انبثقت الأمم المتحدة عام 1945، بميثاقها الذي أرسى المساواة في السيادة، وعدم التدخل، والتسوية السلمية للنزاعات ــ وهو قطيعة تاريخية مع قرون من قانون الغاب الذي كان يقوم على أن "القوة تصنع الحق".
ومع حلول الذكرى الـ80 لتأسيس الأمم المتحدة هذا العام، حث شي على إعادة إحياء المنظمة الدولية في ظل الظروف الجديدة، بما يمكّنها من أن تكون المنصة الأساسية لتنسيق أعمال الدول ومعالجة التحديات بشكل مشترك.
كما تظهر رسالته بعض التحديات الراهنة الكبيرة التي يواجهها النظام العالمي اليوم. وكما أشار شي، فإن الأحادية والهيمنة، بالإضافة إلى ممارسات التنمر والقسر، تُقوّض بشدة السلام والعدالة والمساواة في العالم.
وعرض شي رؤيته بشكل صريح قائلا: "لا ينبغي للقوي أن يتنمر على الضعيف، ولا ينبغي أن تُتخذ القرارات بمجرد استعراض العضلات أو التلويح بالقبضة الكبيرة. كما لا ينبغي أن تكون التعددية الانتقائية خيارنا."
وتحت قيادة شي، كثفت الصين جهودها من أجل السلام العالمي عبر اتباع التعددية الحقيقية ــ بالمشاركة في مهام حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ودفع اتفاقية منظمة شانغهاي للتعاون لمكافحة التطرف، والتوسط في المصالحة السعودية-الإيرانية، ودعم إنشاء مجموعة "أصدقاء السلام" بشأن أزمة أوكرانيا، والمشاركة في تأسيس المنظمة الدولية للوساطة في هونغ كونغ مع 32 دولة.
وقال شي متعهدا: "إن الصين لن تسعى أبدا إلى الهيمنة، كما أنها لا تؤمن بعقلية المحصلة الصفرية. فهذه المفاهيم لم تكن يوما جزءا من الحمض النووي الثقافي للصين، ولا هي ضمن طموحاتها".
وكان الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا قد أشاد بشعور شي القوي بالعدالة، قائلا له: "لقد كنتَ مصدر إلهام للتغييرات العميقة التي يجب على البشرية أن تسعى إليها ــ بأن نتحدث أكثر عن السلام لا عن الحرب، وبأن نتعاون أكثر مما نتنافس، وبأن نُبدع أكثر مما نُدمّر".
ــ لا أحد يُترك خلف الركب
إن قناعة شي تتمثل في أن "التنمية الحقيقية لا تتحقق إلا عندما تنمو الدول معا".
وفي ريو دي جانيرو العام الماضي، انضم شي إلى زعماء العالم في قمة مجموعة العشرين، التي عُقدت تحت شعار "بناء عالم عادل وكوكب مستدام" ــ سعيا لمواجهة أوجه عدم المساواة المستمرة في التنمية العالمية.
وبالعودة إلى عام 2016، ترأس شي قمة مجموعة العشرين في هانغتشو، حيث وُضعت لأول مرة في التاريخ قضية التنمية في صميم تنسيق سياسات الاقتصاد الكلي للمجموعة.
وعند مشاركته خبرات التنمية، قال شي لزملائه في ريو إن "قصة الصين دليل على أن الدول النامية قادرة على القضاء على الفقر".
وفي عام 2020، قاد شي الصين، أكبر دولة نامية في العالم، نحو القضاء على الفقر المدقع، قبل عقد كامل من الموعد المحدد في أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030.
وفي هذا الصدد، قال شي: "إذا تمكنت الصين من تحقيق ذلك، فإن الدول النامية الأخرى يمكنها أيضا فعل ذلك."
ولطالما كان مكافحة الفقر هو محور التركيز الرئيسي لعمل شي طوال أكثر من 40 عاما، خلال مسيرته من المناصب المحلية على مستوى المحافظات والمدن وحتى وصوله إلى مناصب قيادية على مستوى المقاطعات والمستوى الوطني. وقال ذات مرة: "لقد كرسْتُ معظم طاقتي لهذا الهدف."
ودعم شي عدة مبادرات لإنهاء الفقر، منها تقنية "جيونتساو" ــ وهي عشب يُستخدم في زراعة الفطر الصالح للأكل، وإطعام الماشية، ومنع تآكل التربة. ومنذ أن كان مسؤولا على مستوى المقاطعات، بدأ شي في الترويج لهذه التقنية إلى دول في جنوب المحيط الهادئ وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.
وتم توثيق جزء من هذه المسيرة الفريدة في كتاب "النهوض والخروج من براثن الفقر"، وهو مجموعة من كلمات ومقالات ومقابلات لـ شي من عام 1988 إلى 1990 خلال فترة عمله في مدينة نينغده بمقاطعة فوجيان جنوب شرقي الصين.
وفي عام 2023، نُشرت نُسخة باللغة الأوزبكية من هذا الكتاب، حيث كتب الرئيس الأوزبكي شوكت ميرضياييف مقدمة بعنوان "معجزة صينية حقيقية".
وبفهم واضح لتحديات العالم، نسب شي الاضطرابات في العولمة الاقتصادية إلى سبب رئيسي: غياب النمو الشامل. وللتعبير عن تناقضات العالم المعاصر، استشهد بقول تشارلز ديكنز: "كان ذلك أفضل الأوقات، وكان أسوأ الأوقات".
وفي السنوات الأخيرة، واجهت العولمة الاقتصادية انتكاسات، حيث أصبحت الفجوة بين الشمال والجنوب العالميين والانقسام التكنولوجي أكثر وضوحا. واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بدلا من انحسارها، وأصبح 60 بالمئة من سكان العالم أكثر فقرا، أي ما يقارب 5 مليارات شخص، وفقا ورقة بحثية صادرة عن منظمة أوكسفام الخيرية البريطانية العام الماضي.
وقال شي إن "التنمية حق غير قابل للتصرف لجميع الدول، وليست امتيازا محجوزا لقلة". وهذا يفسر لماذا يدفع شي باتجاه عولمة اقتصادية شاملة تعود بالنفع على الجميع.
وبعد أشهر من توليه الرئاسة الصينية عام 2013، قام شي بزيارة دولة إلى كوستاريكا. وأثناء رحلته، اختار زيارة مزرعة بن كإحدى محطاته. وبينما كان يحتسي فنجانا من القهوة الطازجة، قال: "يبدو لي أن هناك مجالا لتصدير المزيد من القهوة إلى الصين".
وكان هذا التعليق مؤشرا على تعهد أوسع نطاقا. فقد تعهد شي بأن الصين ستبقي أبوابها مفتوحة وستشارك ثمار نموها. وقال في أكثر من مناسبة: "مرحبا بكم على متن القطار السريع للتنمية في الصين."
وفي عام 2013 أيضا، كشف شي عن مبادرته المميزة: مبادرة الحزام والطريق. وبعد أكثر من عقد، أصبحت نتائجها ملموسة: القطارات تسير بين المدن الصينية والعواصم الأوروبية، وسكك حديد كينيا الحديثة وموانئها المجددة تعيد تشكيل المشهد في شرق إفريقيا.
وعلاوة على تعزيز الروابط الاقتصادية، يروج شي لنموذج حوكمة يبتعد عما يعتبره إرثا استعماريا عفا عليه الزمن، كما علقت صحيفة ((وول ستريت جورنال)).
وقد أكد شي باستمرار أن التنمية هي المفتاح الرئيسي لتحقيق هذا الهدف ــ وهي قناعة صاغتها تجاربه الشخصية. ففي أواخر ستينيات القرن الماضي، كأحد "الشباب المتعلمين" الذين أُرسلوا إلى الريف، عاش شي بين قرويين مكافحين في مقاطعة شنشي شمال غربي الصين.
وقال في خطاب ألقاه في مدينة سياتل الأمريكية بعد عقود من ذلك: "كان الشيء الذي تمنيتُه أكثر من أي شيء آخر طوال الوقت هو أن يتمكن القرويون من أكل اللحم إلى أن يشبعوا".
واليوم، يقود شي الصين على طريق التحديث صيني النمط. وكزعيم يتمتع برؤية عالمية، يأمل أيضا أن تسير الصين مع جميع الدول في طريق التحديث.
وقال شي: "على طريق رفاهية البشرية جمعاء، لا ينبغي أن يُترك أي بلد أو أمة خلف الركب".
ــ نظام منصف
في قمة منظمة شانغهاي للتعاون التي اختتمت لتوها في تيانجين، طرح شي مبادرة الحوكمة العالمية.
وأوضح أن الغرض من طرح المبادرة هو "العمل مع جميع الدول ذات التفكير المماثل من أجل الدفاع بحزم عن مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وبناء نظام حوكمة عالمي أكثر عدل وإنصافا".
ويمثل طرح شي لهذه المبادرة إدراكه الحاد للتحولات العميقة التي تعيد تشكيل المشهد العالمي.
وقال شي: "إن الصعود الجماعي للجنوب العالمي سمة مميزة للتحول الكبير الذي يشهده العالم". وقد تعهد بأن تضع الصين الجنوب العالمي دائما في قلب اهتماماتها، وأن تحافظ على جذورها في الجنوب العالمي.
وفي أبريل 2015، شهدت مدينة باندونغ الإندونيسية ــ التي كانت تُعرف سابقا بـ"باريس جاوة" ــ لحظة التقاء الماضي بالحاضر.
فمن فندق "سافوي هومان" الذي يعود للقرن الـ19، انطلق قادة نحو 100 دولة باتجاه مبنى الاستقلال، مستعيدين خطى جيل تحدى الاستعمار قبل ستة عقود.
وكان في مقدمة الموكب شي والرئيس الإندونيسي آنذاك جوكو ويدودو. وقد كان ذلك صدى حيا لمؤتمر باندونغ عام 1955، وهو أول اجتماع للأمم الآسيوية والإفريقية المتحررة من الاستعمار، والذي يُشاد به الآن كحدث بارز في صعود الجنوب العالمي.
وقال شي ذات مرة إنه بفضل المثابرة والتضحيات الكبيرة، تمكنت الأسواق الناشئة والدول النامية من نيل استقلالها والتخلص من نير الاستعمار. وهذه الدول تسعى اليوم إلى إيجاد مسارات تنموية تتماشى مع ظروفها الوطنية الخاصة، بدلا من اتباع نماذج مفروضة عليها من الخارج، قائلا: "كل ما نقوم به يهدف إلى توفير حياة أفضل لشعوبنا".
وبفضل رؤية شي العالمية، أصبح الإرث الذي وُلد في باندونغ واقعا سريع التحقق، حيث تتحدث الدول النامية لا كأصوات متفرقة بل كقوة موحدة.
إن التوسع التاريخي لمجموعة بريكس، وإنشاء منتديات تربط الصين بإفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، كلها تحمل بصمة شي، إذ توفر للجنوب العالمي قنوات لتنسيق مواقفه وتعزيز صوته في الشؤون العالمية.
وفي أبريل 2025، وأثناء زيارته بنك التنمية الجديد للبريكس في شانغهاي، المركز المالي للصين، وهو أول بنك متعدد الأطراف أطلقته وتقوده الدول النامية ــ وصف شي البنك بأنه جهد رائد لتمكين الجنوب العالمي من توحيد صفوفه في تحسين الحوكمة العالمية.
وترجع جذور رؤيته إلى فترة شبابه، إذ كان يتعمق في دراسة ((البيان الشيوعي)) و((رأس المال)) وغيرها من الكلاسيكيات الماركسية، واضعا الأساس الفكري لما وصفه لاحقا بأنه اعتقاده الراسخ: "الماركسية واسعة وعميقة، وجوهرها في نهاية المطاف هو السعي لتحرير البشرية."
وبعد عقود، ومع مواجهة البشرية لتحولات نادرة الحدوث لم تشهدها منذ قرن، ظل شي يتأمل العالم: "ما الذي يحدث للعالم وكيف ينبغي أن نرد"؟
وقد طرح شي لأول مرة فكرة بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية في موسكو خلال أول زيارة خارجية له كرئيس للصين. وبعد عامين، وعلى منبر مقر الأمم المتحدة في نيويورك، بسط أفكاره حول بناء مثل هذا المجتمع القائم على الشراكات والأمن والتنمية والحضارة والتعاون الإيكولوجي.
وقد ذكّرت رؤية شي لبناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم بمقولة للفيلسوف الصيني القديم الشهير كونفوشيوس: "سي هاي تشي ني جيه شيونغ دي" ــ أي "فيما بين البحار الأربعة، جميع البشر إخوة".
وقد نطق أنور هذه الحكمة باللغة الصينية خلال استقباله لـ شي في بوتراجايا في أبريل من هذا العام، مضيفا أن "الرئيس شي معروف كزعيم سياسي قادر، ورجل اقتصاد، لكن قبل كل ذلك وبفخر أعمق، هو إنسان عظيم يتمتع برؤية قوية وواضحة وقيم حضارية راسخة".
وعلى مدار الأعوام من 2021 حتى 2023، أطلق شي مبادرة التنمية العالمية ومبادرة الأمن العالمي ومبادرة الحضارة العالمية. إلى جانب مبادرة الحوكمة العالمية، تهدف هذه المقترحات إلى تعزيز النظام الدولي الراهن وتحسينه.
وأكد الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمان أن شي زعيم عظيم يتمتع برؤية تاريخية عميقة ورؤية عالمية واسعة، مضيفا أن "هذه المبادرات العالمية العديدة التي اقترحها تُسهم في تعزيز السلام وتقدم البشرية".
***********
أول عرضٍ لأوبرا كلاسيكية عالمية في السعودية ... الأوبرا الصينية تقدّم "كارمن" في الرياض
مع حلول الغسق على المدينة الصحراوية مساء يوم الأربعاء، أضاءت قبة مركز الملك فهد الثقافي سماء الرياض ودخل الجمهور حاملين ورود حمراء ويسيرون على سجادة مزينة بالورود لقاعة مغطاة باللونين "الأحمر" و"الذهبي".
ومع رفع قائد الأوركسترا يوان دينغ عصاه، انطلقت مقدمة "كارمن" المألوفة، رافعةً الستار عن إنتاجٍ كاملٍ لدار الأوبرا الوطنية الصينية، أول أوبرا أوركسترالية كاملة تقدمها الدار في المملكة العربية السعودية، وهي أول مرة تقدم فيها أوبرا كلاسيكية عالمية في المملكة.
شهد العرض امتلاء أكثر من 2500 مقعد، وعندما بدأت أوبرا "هابانيرا" الشهيرة، استمتع العديد من الشباب السعوديين الذين حضروا أول أوبرا لهم بالعرض، وخلال عزف "أغنية توريدور" الحماسية، دوى التصفيق والهتاف في القاعة.
وعن العرض قال إياد، وهو شاب سعودي من بين الحضور "إنها أوبراي الأولى، لكن الألحان مألوفة بالفعل، العرض مذهل، وقوة الأوركسترا لافتة".
وأضاف صديقه عبد العزيز "هذا يرفع سقف التوقعات، ونتطلع إلى رؤية المزيد من الثقافة الصينية التقليدية في السعودية".
يصادف هذا العام الذكرى السنوية الـ150 للعرض الأول لأوبرا "كارمن" العام 1875، منذ طرح تحفة الموسيقار الفرنسي جورج بيزيه في الصين العام 1982، قدمت دار الأوبرا الصينية نسختين باللغتين الصينية والفرنسية، خلال أكثر من 300 عرض الذي جذب إشادة واسعة.
وصرح وو تشاو، نائب رئيس دار الأوبرا الصينية "بأن العودة إلى عرض أوبرا "كارمن" في الرياض خلال العام الثقافي الصيني السعودي 2025 تعكس عملية الصقل المستمر للأعمال الكلاسيكية العالمية وانفتاحنا على الحوار بين الحضارات".
وأضاف "نسعى جاهدين لتجسيد التوق الإنساني العالمي للحرية والحب على أكمل وجه".
وقال اثنان من الجمهور السعودي عمار وإيمان اللذان كانا يرتديان زيًا إسبانيًا مميزًا "الثقافة خير جسر للتواصل، مشاهدة أوبرا فرنسية تدور أحداثها في إسبانيا، تقدمها فرقة صينية، هنا في السعودية تمثل حضارة في حوار، الأزياء رائعة والغناء جميل".
وبدوره، قال جاسبر هوب، مستشار الأوبرا في الهيئة الملكية لمدينة الرياض، إن توفير جودة حياة عالية لسكان العاصمة والعاملين فيها يعد من أهم أولوياتها ، وأضاف "حجز جميع تذاكر ثلاث دور عرض دليل على ذوق الرياض وحيويتها الثقافية، وخلال السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة، سيتم افتتاح المزيد من دور الأوبرا وقاعات الحفلات الموسيقية والمسارح، ونتطلع إلى المزيد من فرق الأوركسترا وفرق الرقص وإنتاجات الأوبرا الصينية، فمدينة الرياض بحاجة إلى عروض ثقافية عالمية المستوى".
وفى السياق ذاته، قال السفير الصيني لدى السعودية تشانغ هوا "إن تقديم الفنانين الصينيين لأعمال كلاسيكية عالمية هو مثال حي على التعلم المتبادل بين الحضارات".
وبمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين للعلاقات الدبلوماسية والعام الثقافي الصيني السعودي، أوضح تشانغ "الموسيقى والرقص يتجاوزان حدود اللغة، مما يسهّل التواصل، هذا العرض يبرز 'القوة الناعمة' للصين في المملكة، ويمثل لحظة تاريخية في تعميق التبادلات الشعبية".
وصرّح ماثيو بليدسو، نائب الرئيس التنفيذي لشركة IMG Artists، بأنّ فرق العمل في الصين والمملكة العربية السعودية سابقت الزمن لضمان إقامة العرض الأول في الموعد المحدد، حيث في بكين، قامت شركة ((جينغسي الدولية للإعلام الثقافي))، الشريك التشغيلي الصيني، بتجهيز أربع حاويات بحرية مليئة بالديكورات والدعائم والأزياء، وقامت أيضا بترتيب وثائق السفر والتأشيرات والتأمين وتذاكر الطيران وحجوزات الفنادق للمجموعة.
أما في الرياض، عمل فريق العمل في موقع العرض وفريق الإنتاج بجهد، حيث نسقوا آليات المسرح والإضاءة والصوت ونظام الترجمة خطوة بخطوة.
وأضاف بليدسو "عادةً ما يتم تنظيم إنتاجات بهذا الحجم قبل سنوات، بينما هذه المرة، تأخرت الموافقة النهائية، فقمنا بالعمل بسرعة فائقة، وبفضل شركائنا المحترفين، تكاملت كل التفاصيل".
منذ الأول من سبتمبر الجاري، عملت فرق فنية صينية سعودية مختلطة في نوبات عمل لتركيب واختبار الديكورات المتحركة، وإشارات الإضاءة، وشاشات العرض، وميكروفونات البث، كل تفصيل يهدف إلى إعادة إحياء أجواء شوارع إشبيلية.
على خشبة المسرح، نسجت العباءات الملونة الزاهية، والورود، والضفائر، والدانتيل، إلى جانب الإيقاعات، أجواءً إسبانية نابضة بالحياة، شمل العرض ترجمة باللغات العربية والإنجليزية والصينية، تزامنت بسلاسة مع صوت البث وتغيرات المسرح.
عندما أشرقت "وردة إشبيلية" بشعاع ضوء واحد، وارتفعت الموسيقى تحت القبة، شهد الجمهور شرارات فنية أشعلتها لوجستيات دقيقة وتنفيذ متقن.
وفي هذا الإطار، قال بليدسو "إن مشاركة اللحظة الفنية نفسها في المسرح تقرب الثقافات، ومع تحول الرياض السريع إلى مدينة عالمية، نأمل أن تكون هذه مجرد البداية، سيزور المملكة المزيد من الفنانين والأوركسترا وفرق الرقص وعروض الأوبرا الصينية في السنوات القادمة".
وعندما رفع الستار الختامي وانحنى الممثلون، وقف الجمهور مصفّقا بحرارة، ودوت صيحات التشجيع وبين باقات الزهور والتصفيق، برزت قوة الفن في عبور اللغات والحدود، والتي تمثلت كلحظة ثقافية مشتركة أثمرها العام الثقافي الصيني السعودي 2025.