النسخة الكاملة

جيل الحرمان

الإثنين-2025-08-11 11:40 am
جفرا نيوز -
محمد أبو رمان

يأتي كتاب «الجيل المحروم: الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، الذي أعدته مؤسسة فريدريش إيبرت، ونشرت ترجمته العربية دار الساقي مؤخراً، كوثيقة بحثية وتحليلية على درجة عالية من الأهمية والخطورة معاً. ليس فقط لأنه يقدم صورة دقيقة بالأرقام والمؤشرات لواقع الشباب العربي، بل لأنه يوثق تحولاً عميقاً في بنية العلاقة بين هذا الجيل ومجتمعاته ودوله، في مرحلة تلت عقداً من الأمل الكبير، ثم الانكسار، ثم الإقصاء.
اختيار مصطلح «الجيل المحروم» في عنوان الكتاب ليس اعتباطياً، فهو يعكس ما يمكن وصفه بـ»الحرمان الهيكلي»، أي ذلك النمط من الإقصاء الذي لا يرتبط بظرف سياسي أو اقتصادي مؤقت، بل ببنية عميقة تعيد إنتاج نفسها باستمرار. هذا الجيل، الذي حمل قبل عقد شعارات الحرية والعدالة والكرامة، واعتقد أنه يقف على أعتاب مرحلة جديدة من الحريات والديمقراطية، يجد نفسه اليوم أمام واقع أكثر انسداداً وقسوة.
 انتهى الربيع العربي، بالنسبة لغالبية هؤلاء الشباب، إلى إحباط مضاعف: الإخفاق في تحقيق الأهداف الكبرى، وتفاقم الأزمات التي كانوا يسعون لحلها. ثم جاءت جائحة كورونا لتعمق هذا الإحباط، فتوقفت عجلة الاقتصاد، ارتفعت نسب البطالة، وتقلصت فرص العمل، وتزايدت مؤشرات الفقر. هكذا تحولت حالة عدم اليقين، التي رصدتها المسوح الأولى لمشروع إيبرت قبل خمسة أعوام، إلى شعور ثابت بالانسداد والخوف من المستقبل.
في هذا السياق، يكتسب التحليل المقدم في ضوء نظرية ديفيد هارفي أهمية خاصة. فوفق هارفي، لا يُقاس الحرمان بغياب الموارد نفسها، بل بوجود «حواجز هيكلية» تمنع الأفراد من الوصول إليها، حتى وإن كانت موجودة. هذه الحواجز قد تكون قوانين غير عادلة، أو سياسات اقتصادية منحازة، أو شبكات مصالح مغلقة تحتكر الموارد. وفي الحالة العربية، تتجسد هذه البنية في منظومة معقدة من الإقصاء: سوق عمل محدود ومتركز في قطاعات مشبعة أو محتكرة، أنظمة تعليمية لا توفر المهارات المطلوبة، فرص سياسية شبه مغلقة أمام المشاركة الحقيقية، إضافة إلى غياب شبكات حماية اجتماعية فعّالة. النتيجة: جيل محاصر، ليس لأنه يفتقر إلى الطموح أو الكفاءة، بل لأنه يواجه منظومة تمنعه من ترجمة قدراته إلى واقع.
هذه الفجوة بين الحلم والخيال من جهة، والضغوط الواقعية من جهة أخرى، تزداد قسوة، إذا أخذنا بعين الاعتبار مفهوم أمارتيا سن للتنمية كقدرة على الفعل والاختيار. الشباب العربي، وفق ما تكشفه بيانات التقرير، يفتقد اليوم إلى هذه القدرة، فهو ليس حراً في أن يختار نمط حياته أو مستقبله، بل مضطر للتكيف مع خيارات ضيقة يفرضها الواقع.
الأخطر أن عدداً متزايداً من الشباب بدأ يفقد إيمانه بالديمقراطية كطريق للحل، ويميل إلى تفضيل نموذج «الرجل القوي» الذي يعد بالاستقرار السريع، حتى لو جاء على حساب الحريات. لكن هذه المعادلة خطيرة، إذ إن غياب الحريات والعدالة الاجتماعية وفرص العمل هو نفسه ما يولد عدم الاستقرار، ويقود إلى انفجار الغضب الاجتماعي.
التقرير، الذي شمل أراء 12 ألف شاب عربي في 12 دولة ومجتمع عربي، يحذر من أن الجيل المحروم، إذا تُرك لمصيره، سيبحث عن مخارج خارج النظام القائم: الهجرة غير النظامية عبر «قوارب الموت»، الانخراط في جماعات متطرفة، أو الانسحاب إلى عوالم المخدرات والإدمان. هذه ليست فرضيات نظرية، بل اتجاهات أكدتها بيانات المسح، إذ تتقاطع حالة الإحباط مع الشعور بالاغتراب عن المجتمع، وفقدان الثقة بالمؤسسات.
صحيح أن الدول والمجتمعات العربية ليست متشابهة تماماً في حجم هذه الأزمة وحدّتها، لكن كل بلد تقريباً لديه قصته الخاصة لجيل يشعر أن حقوقه الأساسية قد صودرت، وأنه يعيش في بيئة تمنعه من تحقيق ذاته. الفروق في التفاصيل لا تلغي وجود خطر بنيوي مشترك، يتجاوز الحدود، ويهدد استقرار المنطقة على المدى البعيد.
إننا أمام واقع أخطر مما سبق الربيع العربي نفسه، ليس فقط بسبب تآكل الثقة أو تعمق الأزمات، بل لأننا نتعامل مع جيل كامل يشعر أنه محطم ومعلّق، وأن مستقبله قد صودر قبل أن يبدأ. وإذا لم يكن هذا الواقع كافياً لإيقاظ من بيده القرار، فإن ما ينتظرنا قد يكون أشد من كل ما وصفه التقرير..

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير