الفنان يصنع الجمال، يخلق الحب، يبني السلام. هذه ليست عبارات شعرية، بل تعبير دقيق عن الدور الجوهري الذي يقوم به داخل أي مجتمع. الفن لا يُوجد للزينة، بل لصياغة الوعي. الفنان هو من يمنح اللغة أبعادها الإنسانية، ويمنح المشاعر فضاءً للتعبير، ويخلق من خلال عمله مساحات مشتركة بين البشر، حتى في أكثر الظروف قسوة. من هذا الموقع، تكون مسؤوليته مضاعفة. ليس لأنه أفضل من غيره، بل لأنه يحمل أدوات مختلفة: أدوات تُغيّر دون عنف، وتُقاوم دون رصاص.
حين يتحول الفنان من صانع حب إلى صانع عداء، من صانع جمال إلى مروج للكراهية، من باحث عن الحياة إلى شريك في صناعة الموت، فهو لا يتحول إلى شخص آخر فقط، بل ينقلب على بنيته بالكامل. لا يوجد فن حقيقي بدون إحساس. لا يوجد حب حقيقي بالسلاح. لا يمكن لمن كان يُحرّك القلوب بلوحة أو لحن أو جملة، أن يتحول إلى شخص يبرر القتل أو يهدد الآخر أو يحتقر المختلف، دون أن يكون قد تخلّى عن جوهره. المسألة ليست فقط أخلاقية، بل بنيوية. الفنان لا يستطيع أن يكون قاتلاً ويبقى فناناً في الوقت نفسه. هذا الجمع مستحيل.
السؤال المحوري هو: كيف يصل إلى هذه النقطة؟ كيف ينكسر داخله شيء بهذه القوة، بحيث يرى في التنظيم المسلح بديلاً عن أدواته؟ المسألة لا تبدأ فجأة. تمرّ بمراحل من الشعور بالفشل، بالعجز، بالهامشية، بالتهميش أو بالسقوط من المجال العام. وقد يترافق هذا مع قمع مباشر، رقابة، تضييق اقتصادي، وغياب مساحة حرة للتعبير. هذه الظروف، حين تتراكم، تدفع الفنان أحياناً للاعتقاد أن أدواته لم تعد كافية، وأن ما لم يتحقق بالكلمة سيتحقق بالسلاح. في هذه اللحظة، يصبح مستعداً للتخلي عن الفن نفسه، بحثاً عن قيمة مفقودة أو دور جديد داخل بنية صارمة وواضحة، هي بنية التنظيم المسلح.
لكن هذه البنية هي نقيض كل ما يمثله الفن. التنظيم لا يقبل الحساسية، ولا الاختلاف، ولا التأمل. لا مكان فيه للارتباك أو التساؤل أو التفاصيل. هو مساحة مغلقة تُنتج خطاباً واحداً، وتفرضه بالقوة، وتلغي أي احتمالات أخرى. الفنان الذي يدخل هذا السياق، يُطلب منه أن يكون أداة رمزية، أن يُسهم في تلميع السلاح، لا أن يُعيد إنتاج الوعي. يتحول من شخص يطرح الأسئلة إلى شخص يُعيد ترديد الشعارات. من شخص ينتج الحب إلى شخص يبرر الكراهية. من شخص يخلق الحياة إلى مشارك في صناعة الموت. هذا هو التحول الجذري: من المعنى إلى الضد.
في التنظيم المسلح، المشاعر لا قيمة لها. الجمال يُستبدل بالدعاية. الإنسان يُختزل في الهوية أو الولاء. الفنان الذي كان يُعبّر عن التعدد، يصبح جزءاً من منظومة تفرض الصمت على الجميع. لذلك، فإن من يدخل هذا المسار، لا يخسر فقط أدواته، بل يخسر ذاته. يكتشف لاحقاً أن ما ظنه قوة، هو في الحقيقة انمحاء كامل لصوته. أن ما اعتقده تضحية من أجل القضية، كان تخلياً عن كل ما يبرر وجوده كفنان.
هنا تبدأ لحظة التراجع. ليس دائماً نتيجة وعي سياسي، بل أحياناً نتيجة صدمة مباشرة: قتل لا يمكن تبريره، أو مشهد عنيف لا يمكن احتماله، أو إدراك متأخر أن التنظيم لا يحمل مشروعاً للحياة، بل لمزيد من الدمار. يبدأ الحنين إلى الفن، إلى المساحة التي تسمح بالتفكير، بالشعور، بالخطأ، بالتعبير. لكن السؤال الأهم يظهر هنا: هل يستطيع أن يعود؟ هل يمكن لمن شارك في العنف أن يستعيد ثقة الجمهور؟ أن يستعيد صدقه؟ أن يعود صانعاً للحب بعد أن كان شريكاً في نشر الخوف؟
الإجابة ليست سهلة. العودة ممكنة، لكن بثمن. لا يكفي الانسحاب. لا يكفي أن يندم. عليه أن يواجه ما فعله، أن يقول الحقيقة، أن يُفكك التجربة، أن يشرح لماذا اختار النقيض، ولماذا تراجع. عليه أن يُعيد بناء نفسه، لا أن يطلب الغفران. الثقة لا تُمنح بسهولة، خاصة حين يكون الفعل السابق قد ساهم في نشر الرعب، أو شرعنة تنظيم يُهدد المجتمع.
المسألة ليست فردية فقط. المجتمع الثقافي والسياسي يتحمل جزءاً من المسؤولية. حين لا نوفر للفن مساحة حرة، حين نسمح بتهميشه، حين نستهلكه كترفيه لا كقيمة، فإننا نفتح الباب لتحولات من هذا النوع. لكن هذا لا يُلغي مسؤولية الفنان نفسه. لأنه يعرف قبل غيره أن السلاح لا يصنع سلاماً، وأن الكراهية لا تُنتج معنى، وأن من جُبِل على صناعة الجمال لا يمكن أن يتحول إلى صانع للعنف من دون أن يكون قد انقلب على كل شيء في داخله.
الانخراط في تنظيم مسلح ليس فعل مقاومة. إنه إعلان هزيمة. والتراجع عنه لا يُعيد الاعتبار تلقائياً. الفن لا يكون صادقاً إذا لم يكن مستقلاً، ولا يكون مؤثراً إذا لم يكن نقياً من التوظيف القسري. وإذا فقد الفنان هذه القيم، فإنه يحتاج إلى أكثر من النية الطيبة ليعود. يحتاج إلى مراجعة، إلى مواجهة، إلى مسؤولية. فقط عندها يمكن أن يُصدَّق مرة أخرى.