النسخة الكاملة

النزاهة الأكاديمية المختطفة صراع الضمير والمعرفة في زمن الثورة التكنولوجية

الأربعاء-2025-07-16 11:18 am
جفرا نيوز -
البرفسور عبد الله سرور الزعبي
 
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية

في زمن تتسارع فيه الموجات التكنولوجية كموجات تسونامي معرفي، وحيث أصبح العقل البشري يقف وجهاً لوجه أمام ما صنعته يده من أدوات ذكية وأنظمة ذاتية التعلم، والتي أصبحت ضرورة لضمان استدامة التطور العلمي وبقاء الإنسان محور العملية التعليمية. 

في مثل هذه الطفرة التكنولوجية التي تمكّن الباحث من الوصول إلى ملايين المصادر بلحظات، الا انها وبنفس الوقت تتيح للباحث، أن ينتحل فكراً أو يركّب بحثًا، دون ان تترك أثرًا، ما لم تقترن هذه الطفرة بـأخلاقيات رقمية (Digital Ethics)، فأننا سنشهد عصراً تـتآكل فيه القيمة المعرفية في المؤسسات العلمية. في مثل هذه الظروف، حيث تتقاطع الثورة التكنولوجية مع مسارات التعليم، يبرز سؤالًا جوهريًا، هل تواكب النزاهة الأكاديمية هذا التسارع التكنولوجي، أم أنها تُستنزف تحت وطأة الإنجاز السريع؟ حيث أصبح بعض الأساتذة يطبعون أبحاثًا لا يقرؤونها، وتغيب المساءلة، مما يشكل طعنة في قلب المؤسسة الاكاديمية. الامر الذي يتطلب تطوير بيئة تشريعية تُقرن بثورة قيمية موازية، والا فأننا ستتحول إلى طوفان يجرف معه جوهر العلم.

في زمنٍ تتسابق فيه الدول لتعزيز معايير النزاهة العلمية، وتُرفع فيه شعارات التميز والابتكار، يتكشّف في دول العالم الثالث، ومنها الاردن واقعٌ صادم، وهو واقع السرقة والتحايل العلمي، ونشر أوراق في مجلات وهمية، وشراء أبحاث جاهزة، وسيلة مضمونة للترقية الأكاديمية، يرافق ذلك غياب للرقابة والمحاسبة المؤسسية.

في الجامعات العالمية العظيمة، حين يُكشف أبسط خرق للنزاهة العلمية، فان لغة التسامح تتعطل، وتكون الاجراءات قاسية، منها سحب الشهادة، وإنهاء الوظيفة، وإدراج الاسم في قوائم سوداء يتم تناقلها بين الجامعات، مما يجعل صورة الباحث تتصدّع، وسمعته تنهار، ويفقد مكانته، وخسارة الهوية المهنية والاجتماعية، والضغوط الإعلامية والقانونية، وعندها يكون السقوط من البرج العاجي إلى عار المزوّر له تأثير مدمر، ويجد الأكاديمي نفسه في مواجهة عارٍ لا يُغتفر، وفي معظم الحالات تصل حد الانهيار النفسي، أو الانتحار (الانتحار مخرجًا رمزيًا لتكفير الذنب، في المجتمعات التي تتوفر فيها هذه الثقافة، مثل اليابان وكوريا وغيرها). فعلى سبيل المثال، في اليابان، أدت فضيحة تزوير نتائج بحث علمي إلى انتحار مشرف المشروع عام 2011 (من سرقة الأفكار إلى انتحار الضمير، طبق مثال، مرتكب الجريمة البيضاء التي انتهت بالموت) تاركًا رسالة مختصرة "لا أحتمل العار"، بينما فُصلت الباحثة وسُحبت منها شهادتها، ووصل الامر الى ان ينتحر مشرف برنامج STAP  عام 2014، بسبب شعوره بالذنب لعدم كشفه تزوير تلميذته مبكرًا (أن الانتحار في السياق الياباني يرتبط بثقافة الشرف المهني)، في ألمانيا، سُحبت شهادة الدكتوراه من وزير الدفاع الأسبق عام 2011، بسبب سرقة علمية، ما إنهاء حياته السياسية، وفي الولايات المتحدة، تُسحب الأبحاث علنًا وتُنشر أسماء الباحثين على موقع مخصصة، لتصبح وصمة أبدية.

 في جامعات دول العالم الثالث، ومنها العربية، فقد بينت دراسة مركز النزاهة البحثية العالمي (2022) التي شملت 9 دول عربية ان 45%  من الأكاديميين اعترفوا بأنهم يعرفون زميلًا سرق بحثًا أو اقتبس او زور، و33%  من طلبة الدراسات العليا كشفوا ان مشرفيهم استخدموا مشاريعهم في أبحاثهم دون ذكر أسمائهم، وفي تقرير الجمعية الدولية للنزاهة الأكاديمية (IAAI) ، فان بعض الدول تصدرت قائمة البلدان التي تُسحب منها مقالات علمية بسبب انتحال أو السرقة وغيرها بنسبة تفوق 4 أضعاف المتوسط العالم. 

كما بينت التقارير العالمية بانه في احدى الجامعات العربية (؟) نشر أكاديمي 11 بحثًا خلال عام واحد في مجلة غير مفهرسة، وحصل الباحث على ترقية وتعين في موقع إداري، وترقّى البعض على أبحاثًا مشتركة لم يطلعوا عليها (دراسة اليونسكو حول النزاهة الأكاديمية في الجامعات العربية، 2021)، وقيام البعض بنشر أوراق علمية منسوخة بنسبة تتجاوز 50℅ وانكشف امرهم، وتم نقلهم إلى مناصب قيادية، وغيرها الكثير. ومن المفارقات الصارخة، ان أستاذ جامعي ثبت عليه انتحال واستلال بحوث بنسبة تتجاوز 65%، وفُضح امره، الا انه أصبح فيما بعد في قمة الهرم الأكاديمي ويرأس لجان الترقية ويحاسب على أخلاقيات البحث في جامعته!

 كما ان هناك حالات ثبت فيها التزوير أو السرقة العلمية، وعند اتخاذ الاجراء  بإيقاع العقوبة، فإن ما يحدث في بعض الجامعات ومنها بعض جامعاتنا، فان الانسحاب لا يكون للبعض هادئًا، بل قد نرى، إنكارًا للحدث (رغم توثيق الواقعة وقد تصل التوثيق بقرارات قضائية)، وادعاء بأنه مؤامرة أو تصفية حسابات، وظهور مظاهر الاضطراب النفسي عليهم بتضخم الأنا، ونفي الذنب، وسلوك دفاعي عدواني تجاه الإدارة والزملاء الناقدين، وهذه الحالات تصنف ضمن اضطراب الإنكار المتقدم(Advanced Denial Disorder) ، وهو ما يجعل من تصحيح المسار الأخلاقي أمرًا أكثر تعقيدًا. كما نجد البعض يسوقون أنفسهم بأنهم دعاة للأخلاق البحثية ومطالبين بالنزاهة الاكاديمية، ويتحدثون عن أهمية البحث العلمي، وكأنهم يخوضون معركة الإنكار الدفاعي المتقدم (محاولة الفرد تعويض الفضيحة بتبنّي خطاب أخلاقي مفرط).

في كثير من المؤسسات الأكاديمية، لم تعد المشكلة فيمن يسرق، بل فيمن يقود وهو يسرق، واحياناً تصبح بعض المواقع الإدارية والعلمية الحساسة تحت سيطرة أشخاص مارسوا الكذب والتزوير والسرقة العلمية وسو الائتمان، وبوقائع موثقة (هنا لم تعد مجرد حالة فردية، بل تحوّلت إلى أسلوب إدارة). 

الخطير في الامر، انه واثنا هندسة صعود بعض القيادات الفاقدة للنزاهة العلمية إلى قمة الهرم الأكاديمي، وهي غالباً ما تكون بارعة في بناء التحالفات، ومتمرسة في فنون التزلف الإداري، فان سلوكياتهم، تُنتج بيئة ملوّثة معرفيًا، من أبرز مظاهرها، إعادة إنتاج الرداءة، وتوظيف وترقية من يشبههم شريطة توفر الولاء، واغتيال الشخصيات المستقلة، وتشويه المبدعين واتهامهم بالفساد والتزوير، وفبركة شائعات عن الشرفاء لإسقاطهم اجتماعيًا أو إداريًا (مستخدمين بعض وسائل الاعلام)، وشرعنه الانتحال، وغضّ الطرف عن سرقات علمية داخل المؤسسة، وجل همهم، الاستمرار لبناء أوسع قدر من شبكة من العلاقات.

في مثل هذه البيئات، وعندما تنهار منظومة النزاهة الاكاديمية، ووصول مثل هذه القيادات الى قمة الهرم التعليمي، فان لمثل هذه الامر تداعيات وانعكاسات خطيرة ليس على مستقبل التعليم بل على مستقبل الدولة، والتي منها، انتاج" نخبة أكاديمية زائفة”، تمتلك الألقاب لا العمق، وتحتل المواقع لا الرسالة، وفقدان الثقة الاجتماعية بالجامعات كمؤسسات قيادية في المجتمع، وإنتاج خريجين يفتقرون إلى المهارات، ويعانون من العجز المهني والأخلاقي، وانفصال الجامعة عن البحث العلمي الرصين، وتحوّلها إلى مصنع شهادات لا مختبر أفكار، وأساتذة يكرّرون لا يطوّرون، وجامعات تكرّس التلقين لا التفكير النقدي، وهروب العقول والكفاءات، وتصبح البيئة الأكاديمية طاردة، ويتراجع الاقبال على التشاركية الدولية بسبب ضعف جودة البحوث والافتقار إلى النزاهة، وعندها تتحوّل الجامعة من حقل إنتاج إلى حقل نفوذ، وسنجد انفسنا نسير باتجاه صناعة كاملة للفشل المؤسسي.

ان المجتمع الأكاديمي، وهو يمر اليوم في حالة مخاض عسير ما بين الإصلاح والتواطؤ، ومن يحاسب من؟ وما يُعقّد المشهد أن بعض القيادات الفاقدة للنزاهة تحتمي خلف مظلات سياسية أو شبكات نفوذ بيروقراطية، (كما تدخل بعض وزراء التربية والتعليم العالي، وسبق لهم ان كانوا رؤساء جامعات لحماية اشخاص او تمرير ترقيات على بحوث غير منشورة اصلاً) وغيرها، مما يجعل محاسبتها أقرب إلى المحرّم المؤسسي، ومع غياب رقابة حقيقية للهيئات الرقابية، مثل هيئة اعتماد مؤسسات التعليم وضبط الجودة، وهي التي من المفروض ان تقوم بدورها لضبط جودة المخرجات الأكاديمية؟ وإذا لم نقم بدورنا كما رسمته التشريعات، فان المنظومة ستبقى تدور في دائرة مغلقة من التواطؤ والتراجع الممنهج. ان مثل هذا التواطؤ يُحوّل المؤسسات التعليمية إلى غرف مغلقة لا تسمح بدخول النور، ولا بخروج الحقيقة، ويتحوّل من يُفترض أن يحمي المعرفة إلى أول من يغتالها باسم الوجاهة الأكاديمي.

الملك، عبد الله الثاني، لم يكن غافلًا عن همّ التعليم، وعن التحديات التي تواجه منظومة النزاهة لأكاديمية، فقد أكّد مرارًا في خطاباته وأوراقه النقاشية على أهمية التميّز القائم على الكفاءة والنزاهة، وضرورة تحرير التعليم من المحسوبيات والشللية، وخصص ورقة نقاشية (الورقة السابعة) لـبناء قدراتنا البشرية وتطوير العملية التعليمية، وأشار الى أن لا مكان في مؤسساتنا التعليمية لمن يفرّط بقيم النزاهة، أو يزوّر المعرفة، أو يبيع الوهم للطلبة. كما وجّه الملك الحكومة لضبط جودة التعليم العالي، ومحاسبة من يسيء إلى سمعة الأردن الأكاديمية، داعيًا إلى "استقلالية الجامعات، وربط التعيينات والترقيات بمعايير شفافة واضحة تستند إلى الإنتاج العلمي الحقيقي لا العلاقات. ان مثل هذا الموقف الصريح يعكس إرادة سياسية عليا تؤمن بخطورة الفساد الأكاديمي، وأن المعركة من أجل المستقبل لا يمكن أن تُربَح، إن لم تكن النزاهة هي البوصلة، غير أن التحدي لا يكمن في غياب الرؤية، بل في قدرة المؤسسات على ترجمة هذا التوجيه الملكي إلى إجراءات ملموسة، تقتلع جذور التواطؤ، وتبني ثقافة أكاديمية جديدة تُعيد للعلم هيبته وللجامعة رسالتها، فهل نحن فاعلون؟

ان تصريح معالي وزير التعليم العالي الأخير، يعني بان منظومة القيم تتهاوى في منظومة التعليم أمام ضغوط الواقع، وتبدو النزاهة الأكاديمية في بعض الجامعات، كجدارٍ آيلٍ للسقوط، يحمل فوقه مستقبل أجيالٍ كاملة، ومن التراجع القيمي إلى فقدان الجدوى المعرفية، حيث لم تعد أزمة التعليم أزمة مناهج فقط، بل تحوّلت إلى أزمة أخلاق معرفية، تنخر قلب بعض الجامعات، وتعيد إنتاج الجهل بزيّ رسمي وشهادات عليا لا وزن لها في ميزان المعرفة الحقيقية.

في ظل هذا الواقع، فان بعض الجامعات، لم تعد مراكز إنتاج معرفة، بل مسارح للتمثيل الأكاديمي، حيث تتراجع السمعة الاكاديمية في الساحة العالمية، وفقدان الثقة الدولية في الأبحاث المنشورة، وتهجير العقول النزيهة، وتوليد جيل كامل لا يرى في البحث إلا وسيلة للحصول على وظيفة، لا أداة للتغيير.

التعليم العالي الأردني يقف اليوم على مفترق تاريخي، فإما أن نعيد إليه روحه الأخلاقية كحارس للمعرفة والضمير، أو أن نستسلم لانهيار بطيء لكنه عميق، يُفرّغ الدولة من عقولها، ويُحوّل العلم إلى سلعة، والشهادة إلى ورقة بلا معنى. 

إن مستقبل الأردن، في جوهره، مرهون بقدرتنا على استعادة منظومة التعليم الوطنية التي وجه اليها الملك.  فالجامعة ليست مبنى ولا تقويمًا سنويًا، إنها مشروع قيمي متكامل، لا يُدار بالتحايل بل بالمسؤولية، والمجتمع بلا جامعات نزيهة، هو مجتمع فاقد للقدرة على التقدم، مهما امتلك من خُطب أو خطط. والقيادة الأكاديمية النزيهة تُنبت أجيالًا قادرة على التفكير، والمساءلة، والخلق، وأما الفاقدة للنزاهة، فتُنجب نُسخًا باهتة لا تحلم ولا تسأل ولا تغيّر.

رغم الصورة القاتمة، لا يزال الأمل قائمًا، بشرط، إعادة بناء منظومة النزاهة الأكاديمية من الجذور، عبر أنظمة تحقق مستقلة، وقوانين واضحة، ومساءلة شفافة، ومأسسة القيم، وفصل الأكاديميا عن الولاءات السياسية وأصحاب المصالح، وإعلاء مبدأ الجدارة. 

وإذا أردنا أن نُعيد الثقة في مؤسساتنا الأكاديمية، فليكن أول الطريق، الاعتراف بالمرض (هذا ما قام به وزير التربية والتعليم العالي)، لا تجميل الصورة، وإنشاء هيئات وطنية مستقلة للنزاهة الأكاديمية، وفرض مراجعة مركزية للأبحاث قبل الترقية، وربط المجلات المعتمدة بقاعدة بيانات دولية موثوقة، وتطبيق صارم لقوانين النزاهة الأكاديمية وتجريم أي اختراق علمي مشكوك بنزاهته، بمنتهى الصراحة، كما هو الحال في ألمانيا والسويد واليابان وكوريا وامريكا وغيرها، ومراجعة ملفات مجالس الحاكمية والقيادات الاكاديمية والاكاديميين (سبق ان اشرت وبتاريخ 5/5/2013 في جريدة الدستور، بان بعض أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات، كان يجب ان لا يقتربوا من أبوابها)، وسحب الرتب ممن تثبت ارتكابهم لمخالفات لمنظومة النزاهة الاكاديمية واسترداد الامتيازات المالية التي تلقوها مقابل ذلك. اننا نعلم بان أي عملية اصلاح قطاع التعليم، لا يمكن لها أن تنجح، ما لم تبدأ من القمة، من مجالس التعليم العالي وهيئة الاعتماد والأمناء واختيار القيادات الاكاديمية (رؤساء الجامعات) بالاعتماد على الكفاءة لا على التوصية، ووضع أجهزة مستقلة تمامًا لمكافحة الفساد الأكاديمي على غرار الهيئات القضائية.
قد يبدو الطريق طويلًا، لكن البداية بسيطة، أن نقول الحقيقة، ونعترف بأزمة النزاهة (وهذا حصل)، لا لنجلد أنفسنا، بل لنبدأ الإصلاح، وأن نضع الشفافية والتقييم العادل في صلب المؤسسات التعليمية، وأن يكون القائد الأكاديمي قدوة في بحوثه، وان يتمتع قراره بالشفافية، ولا يساوم على نزاهة الترقيات في المؤسسة الاكاديمية، ومَن يصمت عن فساد القيادة الأكاديمية، لا يخذل الجامعة فقط، بل يخون المستقبل، حيث لا يمكن أن نطلب من العقل أن يبدع، وهو يرى أن فاقدي النزاهة يصعدون، والمبدعين يُدفنون في الظل.

ان الالتزام بالشفافية واعتماد الكفاءة وتفعيل الحوكمة هو الامر الذي يحقق الرؤى الملكية السامية في اصلاح المنظومة السياسية والادارية والاقتصادية في مؤسسات الدولة، واساسها اصلاح التعليم.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير