حتى السلام -وهو من أسماء الله الحسنى سبحانه- لم يجد سلاما في صفوف دعاته، وبُناته، ورعاته، وحماته، إلا من رحم ربي. لكل مرحلة قائمة بذاتها في علم دراسات السلام، أحد أهم اختصاصات علم الاجتماع السياسي. مازالت المعضلة في تفهّم المعنيين بأن السلام لا يعني مجرد غياب الحرب، ولا حتى انعدام عناصر الاستقرار، بل مجرد الفتور بمثابة قنبلة موقوتة، سرعان ما يعمل أعداء السلام أو المستفيدون من غيابه أو المتضررون من إحلاله، يعملون على تبريده إلى حد الانجماد، لما يستعصي «كسر الجليد» تلك التقليعات التي يفتتح فيها عادة جماعة الديجيتال وشلل العالم الافتراضي خلوات أبعد ما تكون عن الواقع، بما فيه ذلك الافتراضي بألوانه المزركشة وبياناته وديباجاته المطرّزة، المفرودة على حائط مضيء اصطناعيا، في قاعة مظلمة تعج بأطباق لُقيمات الأصابع «فينجر فود» أو «المازّات»، وما شابه!.
في لهجاتنا على امتداد «بلاد العرب أوطاني» كلمة قافلة بعد السلام من بينها الجملة الوداعية، «والسلام ختام»! نقولها في ختام الحكي -الذي يسميه البعض «سواليف حصيدة» والبعض الآخر «خُرّاف» في ليلة قمرية- القافلة هي كلمة واحدة بنبرة مختلفة، تشير إلى انتهاء الكلام وهي: «وْسلامتكم»! وكأن الأمر في نهاية المطاف، في عهدة المستمع وما على المتحدث أو الرسول إلا البلاغ!.
برصد أسبوع من المحكيات التي صار بعضها أخبارا لها «ترندات»، بالإمكان الجزم بأنه بالفعل، الكرة في ملعب المستمع والمشاهد، الكرة في ملعب المواطن، تحديدا الناخب. معظم ما نحن فيه من أزمات أو تحديات، كان بالإمكان حسمه باختيار نوابنا ورؤساء ومجالس بلدياتنا و»نقابيّينا»، هم بشكل أو بآخر مسؤولون-مساءَلون، تماما كما هم الوزراء والمدراء وأبسط موظف في القطاع العام. حتى القطاع الخاص، موضع مساءلة ومراقبة، وفي جيب كل منا، ما يٌعرف ب «قوة أو سلطة المحفظة» في بلاد العم سام، حيث توظف القوة الشرائية للمستهلك، بعيدا عن المماحكة السياسية التي ثبت افتقارها للمصداقية أو الفاعلية في قضايا خارج الحدود.
لتحقيق السلام المنشود اقتصاديا-اجتماعيا، قبل أمنيا-سياسيا، لا بد من سلام روحي يبدأ بالذات. «الإصلاح يبدأ بالنفس» كما قالها سيدنا الحسين بن طلال، طيب الله ثراهما وكتب مقامهما في عليين.
قضايا سد المديونية وتقليص العجز وتحفيز عجلة الإنتاج كلها قضايا كبرى على جانبي السلام، بمعنى أنها من مدخلات السلام ومخرجاته، في آن واحد. والسلام الذي أعنيه السلام مع الذات قبل السلام مع الآخر. وإن كنا نشكي الزمان ونعيب أهله دولا وحكومات هنا وهناك في الإقليم أو دوليا، فمن باب أولى تحقيق معايير الشفافية داخليا، بدء بالفرد قبل الأسرة والعشيرة والمجتمع ومؤسسات الدولة. فنقول للمخطئ ولمن جانبه الصواب، يعطيك العافية وسلامتك!.
«السلام ختام» جملة فيها الكثير من العبر، ربما نفلح فيها أكثر، إن كانت منها البداية، قبل أن تكون معها النهاية. السلام يبدأ في الصدور لا الرؤوس. نعم، ثبُت من تجارب شخصية ومهنية أن السلام الروحي هو أصل وثمر السلام العقلي والنفسي، ومن بعده كل شيء يأخذ مكانه ووضعه الصحيح. فتنتهي مقولة «الرجل المناسب في المكان المناسب» وتلك الأكثر فداحة اجتماعيا «بكم تزهو المناصب»؟! ما المنصب إلا موقع للخدمة المشروطة الموقوتة، ويا سعد من حظي في الختام بسلام، و»سلامتكم»!