في لحظةٍ فارقةٍ من التاريخ، وفي قلب القارة العجوز، ارتقى صوت ملكٍ عربيٍّ هاشميٍّ فوق كل الخطابات، ليعيد للعالم ذاكرته الإنسانية التي غابت تحت ركام المصالح والصمت. وقف جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، لا كمتحدث رسمي فحسب، بل كصوتٍ نقيٍّ للعدالة، وضميرٍ حيٍّ لأمةٍ تأبى إلا أن تُرفع رايتها بالحق، وتُسمع كلمتها بكرامة.
لم يكن ذلك الخطاب مجرد نص سياسي يُتلى في محفل دولي، بل كان موقفًا أخلاقيًا نادرًا، يجمع بين الصلابة في المبدأ والرحمة في الرسالة. تحدث جلالته بلغة لا يجرؤ عليها إلا من امتلك الشجاعة الكاملة وارتدى ثوب القيادة الحقيقية. كان حديثه عن غزة كأنه نبض الأرض ينطق، وكأن كل طفل تحت الركام وجد أخيرًا من يُدافع عن دمه. قالها بوضوح لا يقبل التأويل:
"ما يحدث في غزة ليس صراعًا عسكريًا، بل اختبار صارخ لقيمنا الإنسانية”،
وأردف قائلاً:
"تطبيع استهداف المستشفيات والمدنيين ليس حيادًا، بل خيانة لكل ما نؤمن به كبشر.”
وفي الوقت الذي اختارت فيه بعض المنصات الصمت، والعديد من القادة الوقوف على الحياد، شقّ صوت الملك الصمت كسيفٍ في ليلة مظلمة، ليرفع راية فلسطين في قلب أوروبا، ويُعيد تعريف العدالة أمام نخبة العالم. لقد طالب العالم أن يتحرر من خوفه، أن يتذكر ضميره، أن يرفع صوته مع صوت الأردن: من أجل الطفل الذي يموت بلا ذنب، من أجل الأم التي تودّع أبناءها كل فجرٍ جديد.
لكن الملك لم يتوقف عند حدود غزة، بل وسّع البوصلة نحو العالم كله. حذر من نيران التصعيد بين إسرائيل وإيران، مؤكدًا أن أي انفجار جديد سيأكل الهامش الباقي من الاستقرار العالمي. ودعا لتوحيد الجهود لا على أساس المصالح الضيقة، بل على أساس الإنسانية والعدالة والتنمية. دعا لخلق مستقبل مختلف، يليق بالشباب، بالمرأة، بالإنسان. لم تكن كلماته فقط سياسية، بل كانت رؤية إنقاذ عالمية من ملكٍ لا يسعى للظهور، بل لتحمُّل المسؤولية.
أما عن الوصاية الهاشمية على القدس، فقد كرّس جلالته مكانة الأردن كصاحب الدور التاريخي والشرعي في حماية المقدسات، لا كسلطة دينية فقط، بل كجسر حضاري يُبقي القدس مدينةً للتسامح، لا ساحةً للصراع.
نحن كأردنيين، لم نستمع إلى الخطاب فحسب، بل عشنا كل جملة وكأنها خارطة شرف. لقد ملأنا الفخر ونحن نرى قائدنا يقف مرفوع الرأس، ناطقًا بلسان أمتنا، لا يلين، لا يُساوم، لا يُراوغ. وقف جلالته كرمزٍ للأمل، كقائد لا يبيع المبادئ، وكصوتٍ ملكيّ يعيد تعريف القيادة في زمنٍ كثُر فيه الصمت وقلّ فيه الشرفاء.
إننا نقولها اليوم بلا تردد: نحن فخورون أنك ملكنا. فخورون أن نردد خلفك كلمات العدل، ونحمل رسالتك في كل محفل، ونقف على كتفك حين تُرفع كرامة الإنسان على منابر العالم.
هذا هو الأردن الذي نعرفه، وهذا هو الملك الذي نعتز به: عبدالله بن الحسين، صوت الضمير في زمن الصراخ، وراية الحق في عالمٍ مضطرب.