روسيا وبشار الأسد: تحالف المصالح وتحول التوازنات في المنطقة
السبت-2025-06-14 08:13 pm
جفرا نيوز -
د. مصلح الأحبابي
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، برزت روسيا كأحد أبرز الداعمين لنظام بشار الأسد، إلى جانب إيران. ورغم أن هذا التحالف يُعد امتدادًا للعلاقات التاريخية التي تعود إلى الحقبة السوفييتية، فإن طبيعة هذا الدعم تطورت بشكل لافت مع تغيّر موازين القوى الإقليمية، خاصة بعد سقوط بغداد عام 2003 بيد القوات الأمريكية، وهو الحدث الذي قلّص النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وأخرجها فعليًا من دائرة التأثير في ملفات المنطقة، باستثناء سوريا.
فقد شكّل انهيار نظام صدام حسين خسارة استراتيجية لموسكو، التي وجدت نفسها فجأة بلا حلفاء أقوياء في المنطقة، في ظل التمدد الأمريكي السريع، وعودة النفوذ الغربي إلى المشرق العربي. عند هذه النقطة، أصبحت سوريا، بقيادة بشار الأسد، الحليف الوحيد المتبقي لروسيا، ما دفع موسكو إلى إعادة ترتيب أولوياتها في الشرق الأوسط وجعل دمشق محور ارتكاز لسياساتها الإقليمية. وتعزز هذا التوجه بوجود القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، والتي تمثل منفذ موسكو الوحيد على البحر الأبيض المتوسط، وتوفر لها حضورًا استراتيجيًا في قلب المنطقة.
ومع تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد النظام السوري في 2011 وتحولها لاحقًا إلى نزاع مسلح، اتخذت روسيا قرارًا استراتيجيًا بدعم الأسد عسكريًا ودبلوماسيًا، بهدف الحفاظ على ما تبقى من نفوذها في المنطقة، ومنع سقوط النظام الذي اعتبرته خطًا أحمر. وفي عام 2015، قامت موسكو بأكبر تدخل عسكري لها خارج حدود الاتحاد السوفييتي السابق منذ عقود، عبر شن حملة جوية واسعة دعمت من خلالها الجيش السوري، وأسهمت في قلب موازين القوى على الأرض، بعد أن كانت المعارضة قد حققت مكاسب ميدانية كبيرة.
لقد منح هذا التدخل روسيا مكاسب مهمة على أكثر من صعيد. فعلى المستوى العسكري، رسّخت موسكو وجودها في سوريا من خلال قواعد دائمة، وجعلت من تدخلها ورقة ضغط في أي تسوية سياسية مستقبلية. أما سياسيًا، فقد فرضت نفسها كقوة لا يمكن تجاوزها في المشهد السوري، وتحوّلت إلى لاعب محوري في ملفات الشرق الأوسط ككل، من خلال بوابة الأزمة السورية.
غير أن ما بدا في البداية كنجاح استراتيجي بدأ يتآكل تدريجيًا مع مرور الوقت. فقد تحوّل التدخل الروسي إلى عبء متعدد الأوجه. فمن جهة، استنزفت الحرب موارد روسيا العسكرية والاقتصادية، وأدخلتها في صراع طويل الأمد لا أفق واضحًا لنهايته. ومن جهة أخرى، أسهم هذا الانخراط في إشغال موسكو عن ملفات أكثر أهمية من منظور الأمن القومي الروسي، وأبرزها الأزمة في أوكرانيا.
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، واجهت موسكو تحديًا استثنائيًا تطلب إعادة توجيه معظم قدراتها العسكرية واللوجستية نحو الجبهة الأوروبية. وقد ترتب على ذلك تراجع ملحوظ في نشاطها داخل سوريا، وتقلّص في دعمها العملياتي لنظام الأسد. هذا الفراغ النسبي خلق فرصة لقوى إقليمية، وخاصة بعض الدول العربية، لتوسيع نفوذها داخل الملف السوري، سواء عبر تحركات سياسية أو مشاريع اقتصادية في إطار إعادة الإعمار.
وفي الوقت الذي كان يُنظر فيه إلى الوجود الروسي كعائق أمام أي حل سياسي حقيقي، بات التراجع الروسي فرصة لإعادة رسم المشهد السوري بما يخدم المصالح العربية، خصوصًا في ما يتعلق بإضعاف النفوذ الإيراني. فإيران، التي استغلت الأزمة السورية لتوسيع نفوذها باتجاه العراق ولبنان واليمن، تُعد من أكبر المستفيدين من بقاء نظام الأسد، وتعتبر سوريا حلقة محورية في "الهلال الشيعي” الذي تسعى لتكوينه. وبالتالي، فإن أي إضعاف للنظام السوري سيؤثر سلبًا على قدرة إيران في الحفاظ على امتدادها الإقليمي.
إلى جانب ذلك، لا يمكن تجاهل التغير النسبي في الموقف الأمريكي من المنطقة. فبعد سنوات من التركيز على شرق آسيا وتقليص الوجود في الشرق الأوسط، عادت الولايات المتحدة مؤخرًا إلى تعزيز علاقاتها مع دول الخليج، مدفوعة بتنامي الدور الصيني، وبتصاعد المخاوف من النفوذ الإيراني المتزايد. هذا التغير يعزز من فرص التنسيق العربي–الأمريكي في الملف السوري، ضمن رؤية جديدة لإعادة التوازنات الإقليمية.
في هذا الإطار، يمكن القول إن الحرب الأوكرانية، رغم كونها أزمة أوروبية، فتحت أمام العرب نافذة استراتيجية نادرة لإعادة ترتيب المشهد السوري. فقد تحول الدعم الروسي للأسد من ورقة قوة إلى عبء استراتيجي، بينما برزت الحاجة العربية إلى إعادة سوريا إلى الحضن العربي، ولكن وفق شروط جديدة تضمن تقليص النفوذ الإيراني، وفتح المجال أمام عملية سياسية تنتهي بإعادة الإعمار وبناء دولة وطنية مستقلة عن المحاور الدولية والإقليمية.
إن الدرس الأهم من تحالف موسكو مع الأسد يتمثل في أن التحالفات القائمة على المصالح قد تنهار أو تتغير عندما تتبدل الظروف الجيوسياسية. واليوم، تقف الدول العربية أمام لحظة تاريخية يمكن من خلالها إعادة صياغة المستقبل السوري بطريقة تعيد الاستقرار والتوازن للمنطقة بأكملها.