بقلم – محمد عيسى العدوان – رئيس مركز عمان والخليج للدراسات الاستراتيجية.
الولاء قيمة جميلة ومفهوم رائع، لكننا اليوم لا نتحدث عن الولاء للوطن، الذي هو من اعلى مراتب الولاء التي يتخذها الانسان لنفسه بعد الولاء لربه ودينه ومعتقداته، بل نتحدث عن الولاء الوظيفي، وقائمة العقوق والعداء.
من اعجب الامور التي لا تحدث ربما إلا في منطقتنا العربية بأن هنالك مفهوم مربك ومنتشر واصبح يتأصل في التصرفات المتبادلة بين القائمين على ادارة المؤسسات وبين الخارجين منها، ربما ورث لنا من الانتداب البريطاني والكيد الاستعماري - وهذا المفهوم هو – العداء والعقوق لمن يخرج من الوظيفية الحكومية .
فمجرد أن تستلم قرار انهاء الخدمات أو الاحالة على التقاعد أو انتهاء العقد بينك وبين الجهة التي تعمل معها ، مباشر يتم وضعك على قائمة (العقوق والعداء الوظيفي) .
فلا يتم ذكر اسمك في أي محفل أو مناسبة للإشادة بما قمت به من اعمال، لا بل يمكن أن يتم معاقبة الموظفين والزملاء الذين عملت معهم اذا تم ذكر فضيلة من فضائلك لخدمة المؤسسة و الدولة بشكل عام .
ويتم سحق وشطب تاريخك العملي من هذه المؤسسة أو تلك ... الاغرب بأنه يتم الاستعانة بكل اجناد الارض للعمل في مجالس الادارة أو مجالس الأمناء أو مجالس الخبراء في هذه المؤسسات التي كان لك فيها كل الجهود وربما انه قد تم انشائها بمبادرة منك، وصرفت فيها حبات العيون والدماء والجهد والتعب، ولا يتم الاشارة ولا لمرة واحدة لك أو بأن يتم طرح اسمك فيها عضواً ولو شرفي أو بتكريم معنوي في مجالس ادارتها أو مجالس امنائها.
واذا ذكر اسمك اما يتجقمون بأفواههم، أو يشيحون برؤوسهم، وكأنها اشارة إلى أنك منبوذ، أو كأنك قد عملت عملة لا تليق، لتدخل تحت معيارية (أنه ليس لك ولا لعملك قيمة) ,,, فينكص الاخرون رؤوسهم تحت مفهوم ,, الرجل يبدو (مغضوب عليه).
أنا بكل تأكيد توصلت إلى أن هذا النهج البغيض، لا يمكن أن يكون عربياً اصيلاً ، وأنه في شرعتي من المؤكد بأنه مفهوم انتدابي استعماري لربما كان يستخدم مع المعارين من حكومة فلسطين البريطانية الانتدابية أو من فرنسا الانتدابية زمن (عصبة الامم) لمن يعملون مع الحكومات العربية ابان تأسيس الدول العربية في المنطقة بداية القرن العشرين، ربما كانت الحالة بانه عندما يغادر هذا الموظف المعار أو المستأجر يتم تصنيفه بأنه (عاق وغير ذي جدوى) ربما ؟؟؟ واعتقد بأن هذا التعريف ورث لنا مع ما ورث لنا من القيم الاستعمارية الاخرى.
في كل دول العالم عندما ينهي الموظف بأي رتبة كان عمله الذي عمل فيها، أن كان مبدع أو ريادي أو حتى ضمن التسلسل الطبيعي في العمل الوظيفي عبر البيروقراطية الحكومية، يتم عمل حفل تكريم له، ويتم دعوته عند كل احتفالية تقيمها المؤسسة، ويقال عنه أنه من الرعيل الاول أو من المؤسسين، واذا كان متأخر في الوظيفة وغير مبدع بالعمل في هذه المؤسسات يقال عنه (الزميل الخبرة).
ما اثارني أنه في المجالس العامة والخاصة يتم ذكر المتقاعد أو المنتهية ولايته من مؤسسات الدولة وكانه أجرب أو عار، ويتبع دائما بمصطلح,,, شكله كان (يخبص لما كان بالوظيفة) .
الاعجب في ما رأيت أنه في احدى المناسبات العامة العربية والتي احتضنتها جامعة الدول العربية بالقاهرة، سؤال موظف صغير عن مسؤول سابق كان له الفضل في تأسيس المؤسسة التي يعمل بها فقال الموظف الصغير؟؟؟ لا نعرفه .. (اصلا ما النا علاقة معه) بالرغم من هذا الشخص موجود في هذه المناسبة بدعوة رسمية كونه من اهم الشخصيات العربية في مجال هذه المناسب، وقد اصبح شخصية عربية متخصصة ومعروفة,,, مما جعل السائل وهو شخصية مهمة ايضا ويحمل درجة الاستاذية ورئيس للعديد من المحافل العلمية والأكاديمية يرد عليه ويخبره،,, اذا كنت لا تعرفه، فنحن نعرفه جيداً، ونعرف ما قدم لبلدك ومؤسستك التي تعمل بها، وربما لولاه ماكنت اليوم هنا في بلادي، ولا تأخذ راتب ، ولا لك أي شأن.
هذا النموذج الذي يوجع القلب،، من أن يتم السماح لهؤلاء العابثين غير المقدرين لرجالات الوطن والمخلصين للدولة بأن يتم العبث والتعامل معهم ومع موظفي الدولة بعد التقاعد على أنهم (عاقين ومنبوذين) برتبة متقاعد.
الولاء الحقيقي للوظيفة العامة هي بحجم الالتزام بالقوانين والانظمة والتعليمات، وهو ذلك الولاء النابع من التفهم للمصالح المتبادلة، واحترام ميزان ما يعرف باسم المساوة والعدالة، والذي يشمل كفتي الميزان فالحقوق مقابلها واجبات، والعدالة تُفرض من خلال المساوة وصدق القول والفعل والبعد عن المكائد وترفع اصحاب الالقاب عن المزاجية التي تنعكس على السمعة الوظيفية بالسوء والشحناء .
يقول غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير : "من يستطيع إيهام الجماهير يصبح سيدًا لهم ، ومن يحاول إزالة الأوهام عن أعينهم يصبح ضحية لهم" .
ثم يأتي فريدريك نيتشه ليؤكد صحة قول غوستاف لوبون ويقول :
"لا تقع ضحية المثالية المفرطة وتعتقد بأن قول الحقيقة سوف يقرّبك من الناس ، الناس تحبّ وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام ، منذ القدم والبشر لا تعاقب إلاّ من يقول الحقيقة ، إذا أردت البقاء مع الناس شاركها أوهامها ، الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل" ..
الاخطر عندي بدون شك، هو تأثير كل ذلك التعامل والعقوق على حساب كل الاشخاص الحقيقيين الراغبين بالاستقرار والنماء والتنمية المستدامة، حيث يترسخ لدى الموظفين الجدد مفهوم، (لن نحصل على التقدير ولا على الاحترام) وأن الوظيفة ما هي إلا فرصة للأثراء والعلاقات ,,, مصيرنا مصير الذين سبقونا.
وفي المقابل يتم الالتفات عن اولائك الذين يحملون لمؤسساتهم ولدولهم كل الحب والتقدير والذكريات الجميلة وايام واشهر وسنوات من التعب والنضال والانجاز، يقابلها كل ذلك العقوق، وهذه الافعال هي التي تحول هؤلاء الرياديين واصحاب الولاء الحقيقي للدولة، تحولهم إلى التموضع في (المنطقة الرمادية)، التي تتميز بأنها لا تستجيب عند الطلب، ولا تتأثر عند المصاعب، لأنها أفقدتهم الاحساس بقيمة وجدوى الولاء الحقيقي والوظيفي وأن مصيرهم قائمة ( العقوق الوظيفي).