إصلاح القطاع العام بين البيروقراطية الكلاسيكية وحركة الإدارة العامة الجديدة
الأحد-2025-06-01 08:51 am
جفرا نيوز -
د. هيثم علي حجازي
شهدت العقود الأخيرة تحولات كبيرة في مفهوم الإدارة العامة، وبرز من بينها توجه الإدارة العامة الجديدة كإحدى أبرز الحركات الإصلاحية التي استهدفت تجديد وتحديث الأداء الحكومي، خاصة في الدول الصناعية الكبرى. وقد جاء هذا التوجه ليعالج القصور في النماذج البيروقراطية الكلاسيكية، ويقدم بديلاً يعزز الكفاءة والفاعلية والابتكار في تقديم الخدمات العامة. وحركة الإدارة العامة الجديدة ليست مجرد مجموعة من الإجراءات، بل هي فلسفة إدارية متكاملة تهدف إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن.
يشير مفهوم الإدارة العامة الجديدة إلى مجموعة من الإصلاحات الإدارية التي تهدف إلى تحسين أداء القطاع العام عن طريق استيراد مبادئ وأساليب من القطاع الخاص، وتعتمد على افتراض أن الإدارة الفاعلة ليست حكرا على القطاع الخاص، وأن تطبيق نفس الأساليب في القطاع العام يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل. ويرى البعض أن حركة الإدارة العامة الجديدة هي مزيج من الفلسفة الليبرالية مع الكفاءة الإدارية، بحيث يُعاد تعريف دور الدولة لتصبح "منظّمة ومنسّقة" أكثر من كونها "منفّذة".
نشأت حركة الإدارة العامة الجديدة في فترة شهدت فيها الحكومات الغربية ضغوطاً متعددة، كان أبرزها (1) الأزمات الاقتصادية العالمية في السبعينيات وما تبعها من عجز مالي في ميزانيات العديد من الدول و (2) التضخم البيروقراطي الذي أدى إلى بطء الإجراءات وارتفاع تكاليف الخدمات العامة و(3) صعود النيوليبرالية بقيادة زعماء مثل مارجريت تاتشر ورونالد ريغان، الذين نادوا بتقليص دور الدولة وزيادة الاعتماد على السوق و (4) تزايد المطالب الشعبية لتحسين جودة الخدمات وتوسيع نطاق الشفافية والمساءلة.
وقد دفعت هذه العوامل الحكومات إلى البحث عن بدائل جديدة تضمن تقديم الخدمات بفاعلية دون تحميل الميزانية العامة أعباء إضافية.
تتميز حركة الإدارة العامة الجديدة بمجموعة من الخصائص أهمها: (1) التركيز على النتائج والمخرجات، إذ لم تعد الإنجازات تُقاس بحجم النشاط الإداري بل بنتائج ملموسة وقابلة للقياس (2) التحول من الرقابة إلى المساءلة، إذ يُمنح المديرون مرونة أكبر مقابل مساءلتهم على تحقيق الأهداف (3)التركيز على المستفيد (العميل) فالمواطن، لدى حركة الإدارة العامة الجديدة يُعتبر "عميلا" يجب إرضاؤه من خلال تحسين جودة الخدمات (5) تقليص حجم الجهاز الحكومي عبر إعادة الهيكلة ودمج الإدارات وتفويض المهام للقطاع الخاص (6) تبني الابتكار التكنولوجي ويشمل ذلك استخدام نظم المعلومات والحلول الرقمية لرفع الكفاءة.
وحتى تتمكن حركة الإدارة العامة الجديدة تحقيق أهدافها، فقد اتجهت نحو استخدام عدة أدوات، منها: (1) العقود الإدارية وخصخصة الخدمات (2) الموازنات القائمة على الأداء ((3) التقييم الدوري لأداء المؤسسات (4) الحوافز والمكافآت المرتبطة بالأداء (5) الخدمة الذاتية الرقمية (6) الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
لقد خاضت العديد من الدول تجربة حركة الإدارة العامة الجديدة، منها (1) نيوزيلندا التي تُعتبر نموذجا رائدا إذ جرى تحويل الوزارات إلى كيانات شبه مستقلة مع عقود أداء محددة (2) المملكة المتحدة فقد تم إنشاء وحدات تنفيذية مستقلة عن الوزارات مع تقارير أداء دورية (3) الولايات المتحدة إذ تم إطلاق مبادرات مثل "إعادة اختراع الحكومة" بقيادة نائب الرئيس آل غور في التسعينيات (4) دول العالم العربي، إذ حاولت بعض الدول التبني الجزئي لمبادئ حركة الإدارة العامة الجديدة، خاصة في الإمارات والسعودية وقطر، لكن مع تفاوت في النجاح بسبب التحديات المؤسسية والثقافية.
ورغم أن الإدارة العامة الجديدة أسهمت في تحسين بعض أوجه الأداء الحكومي، فإنها لم تخلُ من النقد ، ومن أبرز الانتقادات (1) تجاريّة القطاع العام، إذ أن تقليص الخدمات غير المربحة وتحويلها الى القطاع الخاص قد يؤدي إلى تهميش الفئات الضعيفة (2) محدودية القياس، فبعض الأهداف الحكومية يصعب تحويلها إلى مؤشرات كمية مثل العدالة أو الثقافة (3) تآكل الثقة العامة، فالإفراط في الخصخصة قد يزعزع الثقة في قدرة الدولة على توفير الحماية والرعاية (4) انعدام الاستقرار المؤسسي، إذ أن كثرة التغييرات الإدارية أدت أحيانا إلى ضعف الأداء وارتباك الموظفين (5) تفكيك وحدة الدولة، فالتجزئة الإدارية وتقسيم الخدمات قد يُضعف التنسيق بين الجهات الحكومية.
إزاء ما تعرضت له حركة الإدارة العامة الجديدة من انتقادات، برز اتجاه بديل يُعرف بـ "الحوكمة العامة الجديدة" ويقوم على مبادئ (1) الشراكة والتعاون بين الفاعلين ممثلين بالحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني (2) الإدارة الشبكية بمعنى تنظيم العمل عبر شبكات تفاعلية بدلا من الهياكل الهرمية الصارمة (3) الشفافية والمشاركة المجتمعية من خلال إشراك المواطنين في صنع القرار (4) التركيز على القيم العامة وليس فقط الكفاءة.
في نهاية المطاف، تمثل الإدارة العامة الجديدة محاولة جريئة لتحديث القطاع العام وإعادة تعريف دوره في ضوء التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة. وبينما حققت هذه الحركة نجاحات في بعض الدول، فإنها كشفت أيضا عن تقصيرها وعجزها في بعض المجالات، خصوصا في التعامل مع الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والسياسية للعمل الحكومي. لذلك فإن الطريق نحو إدارة عامة فاعلة يجب أن يكون مزيجا ذكيا من الكفاءة الإدارية، والعدالة الاجتماعية، والمرونة، والرقابة الديمقراطية؛ كما ينبغي أن يتم تكييف أي إصلاح إداري مع البيئة المحلية بحيث يتلاءم مع الخصوصيات الثقافية والتنظيمية لكل دولة.