بعضها مزدحم بالوظائف واللوائح، لكنه فارغ من التجربة.
وحين تسأل: لماذا تبدو بعض البلديات أقرب للناس من غيرها؟ لماذا يشعر المواطن في مدينة ما أن البلدية تعرفه، وتستبقه، وتبني على احتياجاته، بينما في أخرى لا يكاد يعرفها إلا عند تقديم شكوى؟.
الجواب لا يكمن في عدد الخدمات، بل في نوع العلاقة.
العلاقة التي تبنيها البلدية مع سكانها ليست مسألة تواصل، بل وعي حضري.
البلدية ليست دائرة خدمات، بل عقل المدينة ومخيّلتها التنفيذية.
حين تكون حاضرة في القرار، وفي الشارع، وفي التفاصيل اليومية، يشعر الناس أن هناك جهة تفكّر عنهم وتدعمهم، لا فقط تنفّذ لهم.
لكن هذا لا يحدث تلقائيًا، ولا بكثرة التعليمات أو التعاميم.
يحدث عندما يتحول الموظف من منفّذ إلى شريك في التصميم، وحين تُدار المدينة كمنظومة حية، لا كمجموعة أوامر.
عندما تُفكّر البلدية بما بعد الطلب، وتُبادر قبل الشكوى، بل وتجعل من تقييم تجربة المستخدم منهجًا لتطوير السياسات والخدمات.
ورغم ذلك، تظل هذه القدرة محدودة حين تُقيّد بالصلاحيات المتناثرة.
فمسؤوليات التخطيط والتنفيذ اليوم موزعة بين وزارة الإدارة المحلية، ووزارة الأشغال العامة والإسكان، وأمانة عمّان الكبرى، وكل جهة تعمل وفق ميزانيتها وأولوياتها.
وفي بعض الأحياء، يبدو الفارق واضحًا: شوارع محظوظة، وأخرى أقل حظًا، لا لشيء سوى اختلاف تبعيتها.
نفس السكان، لكن خطط التأهيل، الإنارة، والصيانة تختلف فقط بحسب الجهة المسؤولة.
ولا أود الخوض في أثر سلسلة القيمة، لكن المؤكد أنها تخفّض الكلف وتُحسّن كفاءة الإدارة.
هذا التفاوت لا يصنع مدينة، بل يُشتّت المسؤولية ويُربك القرار.
وفوق ذلك، يبقى سؤال الاستدامة المالية مطروحًا بقوة.
إلى متى ستظل البلديات تعتمد على الضرائب كمصدر رئيسي؟.
المؤسسات البلدية مطالبة اليوم بتبنّي نماذج شراكة ذكية مع القطاع الخاص، تُحوّل الأصول غير المستغلة إلى موارد فاعلة تُعزز التنمية، سواء عبر دخل مباشر، أو بتحريك الاقتصاد المحلي.
ننظر مثلًا إلى شارع المطار؛ أحد أبرز الأمثلة التي لا تزال، رغم وضوحها، رهن قرار مؤجل.
الطريق الذي يربط الأردن بالعالم، ويعبره آلاف الزوار يوميًا، لا يُفعّل بما يليق بموقعه، أو قدرته على توليد دخل وصناعة انطباع حضري يليق بالعاصمة.
وهنا، السؤال للحكومة مباشرة:
هل تدرك الجهات المعنية ما يمثله شارع المطار من فرصة حضرية واقتصادية خام؟.
وهل توجد لدى أي جهة أرقام دقيقة توضح كم من الربح الفائت والترويج الحضري المهدور بقي معلّقًا فقط لأن القرار لم يُتخذ حتى اليوم؟.
ما زلت أبحث عن إجابة على هذا السؤال. لأنه لا يرتبط بإعلان أو لافتة، بل بكفاءة إدارة وجرأة قرار.
تلك الجرأة التي لا تأتي إلا حين نملك كوادر مؤهلة، وإدارات تدرك أثر القرار، وتعي قيمة الاستثمار، والتشاركية، وتوجيه الأصول نحو التنمية لا الجمود.
ما نحتاجه اليوم ليس تنظيرًا جديدًا، بل شجاعة إدارية تحسم ما يمكن حسمه، وتعيد للبلدية مكانتها كطرف فاعل، لا مجرد جهة تنفيذ.
لأن قرارًا واحدًا قد يفتح بابًا لفرص كثيرة… فقط حين يُتخذ.