هل كنت تعلم بأن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية، وليست دينية بالمعنى الثيوقراطي؟ لقد تأسست منذ نشأتها على أسس مدنية تجسّدت في "وثيقة المدينة المنورة”، التي وضعت قواعد الحكم المدني وضمنَت التعايش السلمي والتعددية الدينية. هذه الوثيقة التاريخية مثّلت أول إعلان لعقد اجتماعي في التاريخ الإسلامي، حيث أقرت مبدأ المواطنة المتساوية ورفضت إقصاء الآخر.
لكن رغم وضوح هذه الحقيقة التاريخية، يحاول بعض دعاة "الإسلام السياسي” طمسها، مستغلين بساطة المجتمعات لتقديم أنفسهم أوصياء على الدين. هؤلاء يتجاهلون عمدًا أن النبي ﷺ كان قائدًا سياسيًا ودبلوماسيًا حكيمًا، استخدم الدبلوماسية الواقعية في مخاطبة القادة والزعماء، ورفض تحويل الدين إلى مطية استبدادية أو سلطة فوقية تتحكم بمفاتيح الجنة.
تُظهِر تجارب التاريخ أن نموذج الدولة الثيوقراطية، الذي تحتكر فيه جماعة دينية محددة السلطة وتُقحم المقدس في إدارة الشأن العام، سرعان ما يفضي إلى الاستبداد الثيوقراطي. هذا النموذج يقمع مبادئ العدالة التشاركية والتعددية السياسية، ويُحوّل الدين من مصدر إلهام روحي إلى أداة هيمنة سياسية.
في المقابل، يؤكد التاريخ الإسلامي نفسه – كما جسّدته وثيقة المدينة المنورة – أن الدولة المدنية وحدها هي القادرة على ضمان الاستقرار والتعايش، بعيدًا عن سلطة الكهنوت أو رجال الدين. غير أن دعاة "الإسلام السياسي” يستمرون في الترويج لفكرة الدولة الدينية، بحثًا عن الشرعية الرمزية التي تمنحهم نفوذًا مطلقًا باسم الدين.
التجارب العالمية تكشف، بوضوح، أن هذه المشاريع الدينية محكومة بالفشل. تجربة الكنيسة في أوروبا، التي وصفها مونتسكيو بقوله: «استبداد باسم الله يقمع كل عقل»، وتجربة الاحتلال الإسرائيلي بقانون "يهودية الدولة”، كلها تؤكد أن الدولة الدينية عاجزة عن التكيف مع حقائق تعددية المصالح وعقلانية السياسة.
إن العالم المعاصر، في ظل الترابط الدولي وعولمة المصالح، لم يعد يتسع لدولة دينية تنغلق على ذاتها باسم القداسة. بل إن الدولة الناجحة اليوم هي تلك القادرة على ممارسة فن إدارة المصالح الواقعية (Realpolitik)، بلا أوهام إطلاقية دينية.
لقد لخّص جون لوك هذا المبدأ بقوله: «حيثما لا يكون القانون، لا تكون حرية». وهذا ما طبّقه النبي ﷺ عمليًا حين أسّس أول دولة مدنية في المدينة المنورة، وأدار علاقاتها الخارجية بمنهج دبلوماسي منفتح، يرفض الإقصاء ويقدّم نموذجًا للحكم المدني القائم على العدالة.
في النهاية، إن جريمة دعاة الدولة الدينية تكمن في أمرين: أولًا، في تشويههم لجوهر الدين الذي جاء ليكون رسالة حرية وعدل. وثانيًا، في محاولتهم احتكار مفاتيح الجنة باسم "القداسة” المزعومة. وكما قال توماس جيفرسون: «عندما تُمزج الكنيسة والدولة، لا يكون الدين نقيًا ولا تكون الحكومة عادلة». من هنا، يبقى الدين في مكانه النبيل: منارةً للضمير والحرية، لا سوطًا في يد السلطة