النسخة الكاملة

بني عامر يكتب: زخم الاستقلال… لا تتركوه يمرّ

الإثنين-2025-05-26 01:30 pm
جفرا نيوز -
د. عامر بني عامر
 
أخطر ما يمكن أن نفعله بلحظة وطنية نادرة، هو أن نحتفي بها ثم نتركها تمرّ كأنها لم تكن، فالمشاعر الجمعية لا تُشترى، والزخم الشعبي لا يُصطنع، وإذا لم نستثمره، فإننا نخسر طاقة لا تُقدّر بثمن، عيد الاستقلال هذا العام لم يكن مجرّد ذكرى عابرة، بل كان لحظة يمكن أن نُعيد من خلالها تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، بشرط ألّا نكتفي بالمشاهدة.
 
لقد بدا العيد مختلفًا هذا العام، لم يكن مناسبة تُستعاد بحكم التقويم، بل لحظة وطنية صادقة، انفجرت فيها مشاعر الحب والانتماء في كل زاوية من المشهد العام، لا شعارات مبالغ بها، ولا استعراضات مفتعلة، بل تعبير عفوي نابع من الداخل؛ من صدور الأردنيين وعيون أطفالهم، من العلم المرفوع على البيوت، ومن الأحاديث الدافئة في الشوارع.
 
كان الزخم شعبيًا حقيقيًا، لا صُنع فيه ولا توجيه، جاء استجابةً طبيعية لحالة وطنية وفّرها مناخ عام هادئ ومحترِم، ساهمت في بنائه مؤسسات الدولة بذكاء وصمت، حين اختارت أن تبتعد عن الضغط والمبالغة، وتترك للناس مساحة يعبّرون فيها عن انتمائهم بطريقتهم، وعندما تُمنح الشعوب حرية الشعور، تختار الانتماء بمحبة، وبصوت أعلى من أي نداء رسمي.
 
هذه لحظة لا تُشبه غيرها، لحظة لم يصنعها الإعلام ولا الخطاب الرسمي، بل صاغها شعور داخلي بالثقة والطمأنينة والانتماء الحقيقي، لكنها لحظة لا تحتمل الإهمال أو التأجيل. فقد عرفنا زخمًا شبيهًا من قبل، لكننا لم نبنِ عليه بشكل حقيقي، وفقاً لمعطيات وأولويات كانت بتلك المرحلة، اليوم هذا الزخم لا يمكن أن يعبر دون أن يدق ناقوس العمل الجاد من الجميع بلا استثناء، وأن نترجم هذا الفرح إلى مشاريع وسياسات ونتائج واقعية تعكس متطلبات وأولويات الأردنيين للحفاظ على دولتهم ومشروعهم وهويتهم. 
 
رفع الأردنيون العلم هذا العام لا لأن أحدًا طلب منهم، بل لأنهم أرادوا ذلك، رفعوه لا استعراضًا، بل لأنهم رأوا فيه ظلًّا لكرامتهم، وصوتًا لانتمائهم، ومعنىً لوجودهم المشترك في وطن لا يُقصي أحدًا، لقد أدرك الناس – بوعي أو بدونه – أن الأردن ليس وطن الغالب والمغلوب، بل وطن الحلم المشترك، والوحدة الرحيمة، والحوار العاقل.
 
ومن هنا، تبدو أهمية وجود مرجعية وطنية جامعة، لا تغيب، بل تظلّ حاضرة كضمانة للتوازن وأولوية وطنية لا تقبل المساومة ولا التشكيك، وهذا ما مثّله العرش الهاشمي، عبر عقود، من مظلة حامية وشرعية مستقرّة، أعادت في كل لحظة حاسمة ضبط البوصلة، وأبقت البلاد على سكة الأمان وسط عواصف الإقليم وتقلّبات الداخل.
 
فالهوية الوطنية التي تجلّت في هذه المناسبة ليست شعارًا يُرفع في الأعياد، بل شعور راسخ لا يتشكّل إلا عندما يشعر المواطن أنه مرئي، محترم، ومشارك في القرار، الانتماء الحقيقي لا يُشترى، ولا يُفرض، بل يُبنى على أسس العدالة، والكرامة، والشراكة.
 
ولذلك، فإن واجبنا اليوم أن نُخرج هذا الزخم من دائرة الشعور إلى دائرة الفعل، نحن بحاجة إلى خطاب جديد، وسياسات عامة قادرة على ترجمة هذا الإحساس إلى واقع ملموس، واقع يلمسه المواطن في التعليم، والعدالة، وفرص العمل، من خلال مؤسسات تخاطبه بصفته شريكًا لا متلقّيًا.
 
فالاحتفال ليس غاية، بل وسيلة لبناء الثقة، والمشاركة في المناسبات الوطنية، ورفع العلم، وغرس قيم الولاء والانتماء، أدوات لصناعة جيل يرى أن الحفاظ على الوطن هو الحفاظ على ذاته ومستقبله، جيل يؤمن بأن الإبداع يُكافأ، وأن الاختلاف البنّاء قوة، وأن الوطن يتّسع للجميع.
 
لقد جمعنا عيد الاستقلال هذا العام على قواسم مشتركة يصعب تجاهلها: الشعور بالأمان، والاعتزاز بالهوية، والإيمان بالمصير الواحد، وهذه المشاعر لا يصنعها فرد، ولا تيار، بل تتكوّن بفعل جماعي من كل من علّم، وخدم، وفكّر، وآمن بأن الأردن يستحق أن نكون له جميعًا، دون استثناء.
 
فالانتماء ليس تكرارًا لماضينا المختلف، بل التزامٌ بمستقبلنا المشترك، والهوية لا تُبنى على سردية الانقسام، بل على مشروع وطني جامع نرتضيه جميعًا؛ وطنٌ يتّسع للجميع، لا يتعارض مع اعتزاز أيٍّ منّا بأصله أو عِرقه أو دينه، ولا نرى في هذا الاعتزاز أي تناقض مع ذواتنا، ولا مع انتمائنا للأردن، وطنٌ لا يطلب من أبنائه أن يتخلّوا عن من يكونون، بل أن يجعلوا من الأردن سقفهم الأعلى، وأولويتهم الكبرى.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير