النسخة الكاملة

البترا : من أزمة الفنادق إلى شراكة مع سور الصين العظيم

الأحد-2025-05-24 10:05 pm
جفرا نيوز - المحامي سلطان نايف العدوان

قرأنا بداية العام عن إغلاق 14 فندقًا من أصل 84، أي ما نسبته 16.67%، وتسريح 487 موظفًا من أصل 1,992، أي ما يعادل 24.45% من العاملين في القطاع الفندقي، لا يمكن المرور عنه مرور الكرام.
هذه الأرقام ليست مجرد بيانات جامدة في تقرير اقتصادي، بل هي مؤشر على أن البترا تقف اليوم عند مفترق طرق: إما أن تتحول إلى نموذج عالمي للمدن الأثرية المستدامة، أو أن تبقى عالقة في مواجهة تحديات العصر دون حلول حقيقية.

وفي خضم هذه التحديات، يبرز بصيص أمل يتمثل في توقيع اتفاقية توأمة تاريخية بين مدينة البترا ومدينة جيايوغوان الصينية، موطن سور الصين العظيم.

الاتفاقية ليست مجرّد تعاون رمزي، بل خطوة نوعية نحو بناء رؤية مشتركة للسياحة الثقافية المستدامة، وفتح آفاق في مجالات التعليم، الحرف، التسويق، وإدارة الإرث العمراني.

نجحت البترا في بناء شراكة استراتيجية مع الصين، ونتطلع لأن تكون هذه التوأمة نواة لتحالف أوسع يضم مدنًا أثرية تواجه تحديات مماثلة، بما يعزز تبادل الخبرات ويعيد ابتكار العلاقة بين التراث والتنمية.

التراث ليس معلمًا محفوظًا فحسب، بل مورد تنموي يتطلب دمجه في السياسات الاقتصادية.
البترا تمثّل أكثر من موقع أثري، فهي مدينة نابضة بالحياة بحاجة إلى نموذج تنموي متكامل، يضمن استدامتها كوجهة وبيئة اقتصادية متجددة.

التحدي لا يكمن في عدد الزوار، بل في جودة التجربة التي تقدَّم، وفي قدرتها على خلق فرص عمل حقيقية واستقطاب استثمارات ذكية.

لم تعد السياحة تقتصر على المشاهدة والتجوال بين المعالم؛ بل أصبحت تجربة تفاعلية تمتد إلى التفاصيل التي يعيشها الزائر ويوثقها في ثوانٍ على منصاته.
وهنا تظهر أهمية الرقابة على الانطباع الرقمي، حيث باتت المنصات السياحية العالمية تحدد وجهات السفر بناءً على تجربة المستخدم، لا على الصور الترويجية.
كل خلل يُهمل، وكل شكوى لا تُعالَج، تتحول إلى تقييم سلبي دائم يؤثر على قرار آلاف السياح.
وأي جهة مسؤولة لا تُصوّب الأخطاء تتحمّل أثرًا مباشرًا على سمعة البترا واقتصادها.
التقصير لم يعد مقبولًا، والمحاسبة عليه ضرورة لا ترف.

من هنا، يمكن للبترا أن تعيد تقديم نفسها عبر أدوات التحول الرقمي، مثل الواقع المعزز لإحياء الشوارع النبطية القديمة، أو الذكاء الاصطناعي لتحسين إدارة تدفّق الزوار.
هذه الأدوات لا تسهم فقط في الحفاظ على الموقع، بل تعزّز التفاعل مع الزائر وتزيد ارتباطه بالمكان.
وبذلك، يتحول الإرث من مادة للمشاهدة إلى تجربة معيشة، ومن معلم حجري إلى قصة يُعاد سردها بلغات العصر.

لكن التجربة لا تبدأ عند مدخل السيق، بل منذ لحظة الوصول إلى المدينة.
ولهذا، تحتاج البنية التحتية إلى تطوير يراعي خصوصية النسيج العمراني، ويقدّم خدمات ضيافة لا تنفصل عن هوية البترا.
فالانطباع الأول، في المدن التاريخية، ليس مجرّد رفاهية بل جزء أساسي من الاستدامة السياحية.

من جانب آخر، فإن وضع المجتمع المحلي في قلب الرؤية التنموية أمر لا بدّ منه.
المدن الأثرية التي عجزت عن إعادة تشكيل أدوار سكانها في الاقتصاد الجديد، فقدت مكانتها رغم أهميتها التاريخية.

وهنا، يمكن التفكير بإطلاق مبادرة عالمية تنطلق من البترا، لدعم المدن الأثرية التي تعاني ضغوطًا مماثلة، وجمعها ضمن تحالف يسهم في تطوير أدوات حديثة لإدارة التراث.
هذه المبادرة قد تشكّل مختبرًا عالميًا للاستدامة، حيث تصبح المدن التاريخية بيئة لتجريب الحلول، لا عبئًا يحتاج للصيانة فقط.

الرهان على المواسم لم يعد كافيًا، والمدن الأثرية التي ترغب بالبقاء عليها أن تتحوّل إلى وجهات حيّة طوال العام.
والبترا قادرة على أن تكون مركزًا للإبداع التراثي، حيث تندمج الفنون المعاصرة بالحرف التقليدية لإعادة تقديم المدينة بأشكال متجددة.

السياحة المتكررة لن تدوم إن بقيت التجربة جامدة.
الزائر يبحث عن شيء مختلف في كل زيارة، وإذا لم يجد الجديد، لن يعود.
لذلك فإن التجديد المستمر للتجربة، دون مساس بالأصالة، هو مفتاح البقاء.

وفي النهاية، ليست البترا موقعًا يحتاج إلى حماية فحسب، بل نموذجًا يمكن أن يُحتذى به عالميًا في كيفية تحويل الإرث إلى فرصة، والماضي إلى مستقبل.
وإذا واصلت مسارها نحو التوأمة الدولية، واستثمرت في التحول الرقمي والمجتمعي، فلن تبقى مجرد موقع على قائمة اليونسكو، بل ستتحول إلى مرجع عالمي يُستدل به على أن حماية التراث تبدأ من إعادة تعريفه كقوة اقتصادية، لا كموقع تاريخي فقط .

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير