"نحن مع الذين يجعلون من أجسادهم جسرًا ليعبر الأردن إلى عزّه وفخاره، ولسنا مع الذين يعتبرون الأردن جسرًا للوصول إلى مكاسبهم ومصالحهم الشخصية.” الملك الحسين بن طلال – جامعة مؤتة
بهذه الكلمات الخالدة رسم جلالة الحسين – طيّب الله ثراه – ملامح رجل الدولة الحقيقي، وأرسى معيارًا أخلاقيًا وسياسيًا لا يقبل التأويل أو الالتفاف. فليس كل من تصدّر المشهد السياسي، أو جلس على مقعد المسؤولية، هو بالضرورة من أولئك الذين يبنون الجسور للوطن. رجل الدولة هو من يُضحي، لا من يُزايد، من يُعطي، لا من ينتظر، من يحمي الدولة ولا يتاجر بها.
في زمنٍ تداخلت فيه المفاهيم، وتشوّهت فيه ملامح المسؤولية العامة، بات لزامًا علينا أن نُعيد الاعتبار لمصطلح "رجل الدولة”، لا بوصفه مجرد صفة شكلية، بل باعتباره مرتبة سيادية ترتبط بالوعي العميق، والانتماء الراسخ، والقدرة على تحمّل أثقال الدولة دون منٍّ ولا مقابل.
رجل الدولة… حامل العقد السياسي لا مجرد موظف فيه
رجل الدولة ليس نتاج لحظة وظيفية ولا نتيجة لتوازنات ظرفية. إنه حاملٌ للعقد السياسي غير المكتوب بين الدولة ومواطنيها، يحفظ اتّزانه في العاصفة، ويزن المواقف بميزان الذهب لا بميزان الحسابات الشخصية. هو من يدرك أن الدولة ليست سلعة للتفاوض، ولا مساحة للثأر، بل كيان مستمر، يحتاج إلى من يؤمن بثوابته ويذود عنها دون تردّد.
هو من يغادر موقعه الرسمي دون أن يغادر موقعه الوطني، فلا يتحوّل إلى خصم سياسي أو مصدر تشويش شعبوي. ولا يقايض ماضيه الوظيفي بحاضرٍ من المعارضة المعلّبة، أو بانتظار "فرصة العودة”.
الهاشميون… ضامنون تاريخيّون لوحدة الوطن
رجل الدولة هو الذي يؤمن بأن القيادة الهاشمية تشكل حجر الزاوية في استقرار هذا الوطن، وبأنها تمثل بوليصة التأمين التاريخية لمستقبل الأردنيين، لا من خلال السلطة فقط، بل من خلال شرعية ارتضاها الأردنيون مرجعية وهوية سياسية. استمرار هذه الدولة هو استمرارٌ لما هو أعمق من الجغرافيا، إنه استمرار لوجودنا، ولفرص أبنائنا في الحياة الحرة الكريمة.
ميزان المصلحة الوطنية… لا يقبل الكسر أو الميلان
في عالم السياسة، يسهل الانزلاق نحو الأنا، لكن رجل الدولة هو من يوازن بوعي دستوري عميق بين السلطة والمسؤولية، بين الحق والمصلحة، بين الذات والدولة. لا يعارض الدولة لأنه غادر موقعًا، ولا يصطف ضدها ليحقق رغبة كامنة في الحضور أو التعويض. بل ينطلق من يقين ثابت أن الدولة فوق الجميع، وأن موقع الولاء لها لا يلغيه الغياب عن المناصب.
رجل الدولة لا ينكفئ عند أول صدمة، ولا يُزايد في لحظات الخطر، بل يحافظ على صوته الوطني نقيًّا من شوائب الكراهية والانتقام السياسي.
الخطاب السياسي… مسؤولية لا مساحة للتجييش
نحن اليوم أمام تحديات وطنية وإقليمية معقّدة، تحتاج إلى خطاب رجال دولة، لا خطاب إثارة أو تهييج. الخطاب الذي يطمئن الناس لا الذي يُرعبهم، الذي يعزز الإيمان بثبات الأرض، لا الذي يوهم الناس بالانهيار. رجل الدولة يرفع منسوب الوعي الجمعي، لا منسوب التوتر العام. يؤكد على تماسك الدولة، لا هشاشتها. يدير الانفعال لا يركب موجته.
في الأوقات الحرجة، لا نحتاج لمزيد من الأصوات، بل نحتاج لمن يحمل صوته بمسؤولية، ويضع كل كلمة في مكانها، ويدرك أن اللغة ليست مجرد أداة للتعبير، بل أداة للحفاظ على منعة الدولة وأمنها المعنوي.
نحو استعادة المعنى السياسي العميق لرجل الدولة
إننا اليوم، لا نبحث عن أوصاف جاهزة، ولا نُفتّش عن نجومية طارئة، بل نحن في لحظة تاريخية تتطلب عودة رجال الدولة الحقيقيين إلى واجهة المشهد. أولئك الذين يُدركون طبيعة اللحظة، ويقدّرون حساسية الموقف، ويقفون صفًّا واحدًا خلف الدولة، دون أن ينتظروا مكافأة أو تقديرًا.
إننا بحاجة إلى صوت العقلاء، وهدوء الحكماء، واتزان من يرون الوطن بعيون الدولة لا بعيون المعارضة أو الولاء العاطفي. فبهؤلاء فقط نحافظ على اتزان المركب الوطني وسط أمواج الإقليم المتلاطمة