النسخة الكاملة

الشيزوفرينيا السياسية: بين المتاجرة بالدين ومصداقية الالتزام

السبت-2025-05-17 04:53 pm
جفرا نيوز -
المحامي طارق أبو الراغب

في اللحظات المفصلية من عمر الشعوب، تنكشف المواقف الحقيقية، وتسقط الأقنعة التي طالما اختبأ خلفها الخطاب المزدوج. وتبرز عندها ظاهرة يمكن وصفها دون مبالغة بأنها "شيزوفرينيا سياسية”؛ حالة من الانفصام البنيوي في الموقف والرؤية، تتجلى بوضوح لدى بعض التيارات التي تنتمي إلى الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين.

هذه التيارات، التي طالما رفعت شعار "التحرر من الهيمنة الأجنبية” و”رفض القواعد العسكرية الأجنبية”، سرعان ما تسقط في امتحان الاتساق عندما يتعلّق الأمر ببلدان حليفة لها. لقد اعتدنا سماع هجاء صاخبًا لقواعد عسكرية أمريكية في دول بعينها، بينما يسود صمتٌ مُطبق أمام قواعد أخرى في بلدان تُعد خزّانًا استراتيجياً لدعم هذا التيار.

لم يخرج أي موقف واضح أو نقد حقيقي حين ألقى زعماء أمريكيون خطاباتهم من داخل قواعد عسكرية في هذه الدول، بل على العكس، ساد نوع من التبرير والتغاضي، بل والإشادة بزيارات كهذه، وكأن المسألة لم تكن يومًا مبدئية. هل السيادة الوطنية مبدأ قابل للتفاوض؟ أم أنها تُفصَّل وفقًا لعلاقة الدولة المعنية بمنظومة التنظيم السياسي العابر للحدود؟

وفي الملف الفلسطيني، يتّضح الانفصام بصورة أكثر جلاءً. لقد تحوّلت القضية الفلسطينية إلى أداة وظيفية تُستخدم في سياق الاصطفاف السياسي، لا في إطار مبدئي ثابت. فهي تُستثمر كرافعة خطابية ضد أنظمة محددة، ويتم التغاضي عنها – أو حتى خفض سقف الخطاب بشأنها – حين يتعلق الأمر بأنظمة أخرى تحتضن الجماعة وتوفر لها فضاءً سياسياً أو إعلامياً. لقد تحوّلت فلسطين من "قضية تحرر وطني” إلى "بطاقة ضغط” يُلوّح بها عند الحاجة، وتُسحب حين لا تتوافق مع أولويات الراعي الإقليمي.

هنا، يصبح لزامًا علينا أن نوضح الفرق الجوهري بين "المتدين” و”المتاجر بالدين”. الأول منسجم مع ذاته، يرى في تدينه منظومة قيم تُترجم إلى سلوك، بينما الآخر يستخدم الدين كمادة خام لصناعة خطاب سياسي شعبوي، أو كأداة مشروعية تحت الطلب. ومن هنا، فإن السياسة لا تحتاج إلى "أسلمة شكلية” تفرغها من بعدها الوطني والمؤسسي، بل تحتاج إلى سياسي نزيه، متدين، يحمل وعيًا أخلاقيًا وقانونيًا، ويؤمن بأن الشأن العام لا يُدار بالنصوص المجتزأة ولا بالاصطفافات العقائدية، بل بالرؤية، والحكمة، والمصلحة العامة.

أما من يسعى إلى تأسيس سلطة دينية مقنّعة عبر أدوات سياسية، فإنه لا يختلف كثيرًا عن من يسعى إلى فرض هيمنة أيديولوجية أخرى؛ فكلاهما يلغي التعدد، ويقوض العقد الاجتماعي، ويستبدل الدولة بالمشروع، والمواطنة بالولاء التنظيمي.

الشيزوفرينيا السياسية ليست خللًا طارئًا، بل تعبير عن أزمة عميقة في البنية الفكرية والتنظيمية لهذه التيارات. وهي، في جوهرها، ليست فقط ازدواجية في الموقف، بل حالة افتراق خطير عن منطق الدولة، وعن متطلبات السيادة والاستقلالية السياسية.

لقد آن الأوان لأن يتحرر الوعي الجمعي من هذا الابتزاز العاطفي باسم الدين، وأن نعيد الاعتبار للعقل السياسي المتزن، الذي يميّز بين من يعمل بإخلاص تحت سقف الوطن، ومن يتنقل بخطابه حيثما اتجه التمويل أو أذنت التعليمات 
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير