كغيري من أبناء الوطن كنا قد تابعنا الحراك في الجامعات الأردنية الحكومية أثر قرار مجلس التعليم العالي الصادر بموجب كتاب رقم م ع /5175 تاريخ 4/5/2025 والمتضمن وقف الاشتراك في التامين الصحي في القطاع الخاص، وان يكون الاشتراك في التامين الصحي الحكومي وهو القرار الذي جاء كأحد توصيات اللجنة المشكلة لمعالجة مديونية الجامعات، وجاء بعد مقابلة بعض رؤساء الجامعات الذين طالبوا بذلك (كما علمت من احد المصادر الذي طلب عدم ذكر اسمه)، وان كان حصل مثل هذا الامر، فهو يعني نقل مسؤولية مثل هذا القرار من داخل الجامعة الى مستوى اعلى، لتجنب تحمل تبعاته. ان مثل هذا القرار يذكرني بقرار دولة الدكتور عبد الله النسور عام 2014، والذي منع فيه التعينات الادارية في الجامعات، وكان ذلك بعد اجتماعه مع رؤساء الجامعات في قاعة المدينة الرياضية وطلبه منهم إيقاف التعينات الإدارية، قائلاً إذا لم تستطيعوا فسأتخذ انا القرار، ورحبوا جميعهم بذلك (وكنت حاضرا على ذلك بصفتي مدير عام صندوق دعم البحث العلمي)، الا انهم وبعد صدور القرار اعتبروه تدخلاً في عمل الجامعات، وهي مستقلة وفقاً لإحكام القانون).
ان ما حصل بداية الأسبوع الماضي بعد صدور قرار المجلس يوم 4/5/2025، أعاد الذاكرة الى تجربتي مع ملف التامين الصحي في جامعة البلقاء عام 2016، وذلك بعد ان تشرفت بصدور الإرادة الملكية السامية بتعيني رئيساً للجامعة، وباشرت عملي يوم 28/6/2026، وما زال في الذاكرة ان اول مواضيع كانت قد وضعت امامي، عدم صرف رواتب العاملين في الجامعة حتى ذلك التاريخ، ورفض المستشفيات والصيدليات والأطباء استقبال العاملين، بسبب تراكم ديون وعدم قدرة الجامعة على الوفاء بالتزاماتها اتجاه الجهات الطبية.
كانت المفاجأة، استلام الجامعة كتاب معالي وزير التعليم العالي آنذاك بتاريخ 17/7/2016، والمتضمن حصر اتفاقيات التامين الطبي للعاملين في جامعة البلقاء مع مستشفيات وزارة الصحة ومستشفيات الجامعات الرسمية والخدمات الطبية الملكية، وهو الامر الذي اعتبرته رئاسة الجامعة آنذاك تدخلاً مباشراً في عملها، وسلبها حقها في الاستقلالية التي منحها إياها القانون، مما استدعى ابلاغ معالي الوزير آنذاك، بان الجامعة ستلتزم بأحكام القانون وبنظام التامين الصحي فيها، وستعمل على معالجة ازمتها المالية (العجز والديون والمطالبات المالية، والتي قدرت وقتها بحوالي 67 مليون دينار)، ومنها ملف التامين الطبي، والذي قدرت ديونه التراكمية عبر السنوات بحوالي 17.5 مليون (حسب تقرير مدير محاسبة التامين الصحي في الجامعة آنذاك)، وان نسبة تحمل الجامعة وصلت احياناً الى ما يزيد عن 4.5 مليون دينار سنوياً.
ان مثل هذا الامر استدعى دراسة ملف المديونية والعجز بكافة عناصره، ومنها ملف التامين الصحي، للوقوف على الأسباب التي أوصلت مديونية التامين الصحي الى هذا المستوى من التعقيد.
ان الدراسة التفصيلية بينت ان الأسباب الرئيسة لمشكلة التامين الصحي في الجامعة آنذاك، كانت بسبب سوء إدارة الملف، وانخفاض قيمة المساهمة المالية للمنتفعين، ووجود اعداد من المشتركين (أكثر من 2600 مشترك، على ما اذكر) كان اشتراكهم مخالفاً لنظام التامين الصحي، وجود مخالفات من قبل بعض الجهات الطبية ومن بعض المنتفعين.
خلال بضعة أشهر، كنا وفريقي قد وصلنا الى خطة لهيكلة الجامعة، ومعالجة أسباب الخلل، ومنها ملف التامين الصحي بهدف إنقاذه، والمحافظة على استمراريته وتحسين جودته لما له من أبعاد ٍ نفسية واجتماعية على العاملين. الا انه ان يواجه احداث أي شكل من اشكال التغير، المعارضة من أصحاب المصالح وقوى الشد العكسي (وهو امر طبيعي).
الا ان القرار كان قد اتخذ من قبل كافة مجالس الحاكمية في الجامعة (مجلس الجامعة بتاريخ 31/10/2016، ومجلس الأمناء فيها) وأصبحت حزمة الإجراءات المتخذة واجبة التنفيذ، والتي منها، اخراج كافة الجهات الطبية المخالفة لعقود الاشتراك من شبكة التامين الصحي، وإخراج كافة المشتركين الذي اعتبر اشتراكهم مخالفاً لنظام التامين الصحي من قوائم الاشتراك (اكثر من 2600 مشترك)، ورفع رسوم الاشتراك في التامين الصحي، واستحداث الدرجة الخاصة لمن يرغب، وانشاء وحدة خاصة بالتامين الصحي في الجامعة لمتابعة كافة اعمال الإجراءات الطبية، والرقابية، وضبط النفقات، والتدقيق والمتابعة الحثيثة وتقديم التقارير الأسبوعية، مع فتح باب الاشتراك لمن يرغب في التأمين في مستشفيات وزارة الصحة والخدمات الطبية وفقا ً للأسس المعمول بها والمقرة من قبل الحكومة لهذه الغاية، على ان يبدا تطبيق هذه الإجراءات اعتباراً من 1/1/2017. تبعها بعد ذلك الدخول في مفاوضات مع الجهات الطبية الدائنة، حيث تم الوصول الى انها ملف الديون بقيمة لم تتجاوز 40℅ من قيمة المطالبات التراكمية والتي كانت تعود لأكثر من عقد من الزمن آنذاك.
كما اذكر بان معالي وزير التعليم العالي في شهر تشرين ثاني 2016 كان قد استفسر عن خطة الجامعة لمعالجة ازمتها المالية ومنها ملف التامين الصحي، وقد تم اطلاعه على خطة الجامعة، والمتضمنة الهيكلة الادارية والأكاديمية، وهيكلة التعليم التقني وتخصصات الدرجة الجامعية المتوسطة، والتامين الصحي والذي التزمت الجامعة بالمحافظة علية وتجويد خدماته، وكان ذلك بتاريخ 3/11/2016، وهو بارك الإجراءات على ان تتحمل رئاسة الجامعة تبعات ذلك، وبنفس الوقت لم يتدخل كسابقه، الذي عاد لموقعه فيما بعد، ليتدخل في الترقيات ومنح الرتب الاكاديمية والتعينات والعقود وإعادة المستغنى عن خدماتهم بسبب الاستلال العلمي، لا بل مارس التحريض وتشوية الحقائق (كما هو موثق شهر 12/2021).
ان هيكلة التامين الصحي في الجامعة، خفضت نسبة تحمل الجامعة من حوالي 4.5 مليون دينار 2015 الى اقل من 1.5 مليون دينار عام 2017، ولتنخفض الى حوالي 0.5 مليون دينار في السنوات التي تلتها، واذكر ان نسبة مساهمة الجامعة وصلت الى مستوى معقول فيما بعد.
ان مثل هذا الاجراء، جعل من شبكة التامين الصحي في الجامعة من أفضل الشبكات الطبية على مستوى المملكة، وقد ساهم مع بعض الإجراءات المالية الأخرى، مثل هيكلة التعليم التقني وهيكلة الكليات، وتطوير أداء وحدة الرقابة الداخلية (الذي بفضل فعاليتها انتقلت الجامعة من تقيم 46℅ في النصف الأول من عام 2016 الى ان وصلت الى واحدة من أفضل 10 مؤسسات حكومية في التقييم الرقابي وبتقدير 98℅، 2020)، ورفع الطاقة الاستيعابية للجامعة من حوالي 32000 طالب لعام 2016 الى 67128 طالب في شهر 10/2021، وغيرها من الإجراءات لا مجال لذكرها، ان جميع هذه الاجراءات ساهمت في اخراج الجامعة من أزمتها المالية، والتي بدأت تشهد وفراً مالياً سنوي اعتباراً من عام 2017 وحتى نهاية 2021، واخرجتها من أزمتها المالية (وجعلها من بين افضل الجامعات، مالياً وادارياً واكاديمياً لعام 2021)، وكان لديها فائض يقدر بأكثر من 8 مليون دينار مع نهاية 2021 (عند عمل مقاصة بين الذمم الدائنة والمدينة، موثق)، وعلى عكس ما تم الحديث عنه بوجود ديون على الجامعة قدرت بأكثر من 20 مليون دينار بتاريخ11/4/2022، ثم قدرت مرة أخرى ب 40 مليون دينار بتاريخ 19/7/2022، وهو الامر الذي يخالف الواقع (كما هو في شهر 12/2021) ويثير الاستغراب؟
ان أسباب ازمة مديونية الجامعات، والتي تناقش منذ اكثر من عقدين من الزمن، والتي سبق ان كتبت عنها بتاريخ 5/7/2023، تحت عنوان "مديونية الجامعات الرسمية بين الواقع والتضخيم" والتي يعزيه البعض الى نقص في التمويل الحكومي، أو انخفاض رسوم الساعات المعتمدة، أو إلى تكلفة دراسة الطلبة المستفيدين من قانون التقاعد، وغيرها من الاسباب، إلا أنهم أغفلوا ان السبب الرئيسي يعود الى القرارات الإدارية الخاطئة أو الاسترضائية، او التردد في اتخاذ القرار في الوقت المناسب، التي لا تظهر آثارها المالية مباشرة عند اتخاذها، بل يكون اثرها المالي السلبي تدريجي ليتراكم، الى ان تتعمق الازمة وتصل الى مستويات مرتفعة كما هو في جامعة اليرموك مثلاً، والتي لا يسئل عنها احد فيما بعد، وهذا ما خلصت اليه النقاشات التشاورية في جامعة اليرموك، ومنها تجربتي الشخصية ايضاً.
على الرغم من أن مديونية الجامعات هي عملية تراكمية، كنتيجة لأخطاء سبق وأن ارتكبت، إلا أن الخروج منها عملية ممكنة في حال توفرت الإرادة والشجاعة في اتخاذ القرارات التي تخدم الجامعة والبعيدة كل البعد عن القرارات الشعبوية والاسترضائية.