في كل عام، يحمل شهر أيار رسالة إنسانية عميقة تتجاوز الشعارات والمبادرات المؤقتة، ليضعنا أمام حقيقة لم نعد نستطيع تجاهلها: الصحة النفسية ليست رفاهية، بل ضرورة حياة.شعار يرفع كل عام ليؤكد ان الحديث عن الإضطرابات النفسية لم يعد من المحظورات أو من التابوهات التي يمكن أن تُخفى خلف ستائر الخجل أو الانكار المجتمعي، بل أصبح من أولويات المجتمعات الواعية التي تدرك أن الإنسان والمجتمع لا يمكن ان يكونا بخير بالعلاج الجسدي وحده، بل بالسلام الداخلي أيضًا وهو ما يحققه الاستقرار النفسي.
بالموروث الجمعي الشعبي أيار هو شهر «التراب والغبار»، إذا ربما كانت الصدفة خيرا فعلا من ألف تخطيط ودراية ليكون هذا الشهر، هو الوقت الأنسب لتظهر رسالة ودعوة صريحة لإعادة النظر في طريقة تعاملنا مع الضغوط، والتوتر، والقلق، والاكتئاب، الذي يغلف حياتنا ويشوش رؤيتنا، وغيرها من التحديات النفسية التي قد يعاني منها أي شخص، بغض النظر عن عمره أو جنسه أو موقعه الاجتماعي. الغبار أو الاضطراب النفسي لا يحمل لافتة، بل يعيش خفيًا في التفاصيل. وهنا تحديدًا، تأتي أهمية أن نصغي لما لا يُقال. فليست كل الآلام تصرخ. أحيانًا، يكمن الوجع في النظرات الشاردة، في الصمت الطويل، في نوبات الغضب المفاجئة، أو حتى في الإفراط بالمزاح.
أن نصغي لما لا يُقال، يعني أن نلتفت إلى مراهق تغيّر سلوكه فجأة، إلى طفل أصبح منعزلًا، إلى امرأة تبتسم كثيرًا ولكن عينيها ممتلئتان بالأسى، أو إلى رجل يختار الوحدة رغم حاجته العميقة للاحتواء. هي لغة صامتة، لا تُفهم بالكلمات بل بالتعاطف.
حين نعترف بأن الألم النفسي حقيقي، ونصغي لمن يعيشونه حتى دون أن ينطقوا به، نكون قد اخترنا طريق الشفاء. وحين نوجّه من نحب إلى العلاج النفسي، لا نُهينهم، بل نقول لهم: «أنا أراك. وأهتم بك.».
العلاج النفسي هو المساحة التي يُسمح فيها لتلك الأصوات الخافتة أن تُسمع دون خوف. هو الحاضن لكل ما لم يُقل في العائلة، وما لم يُفهم في الطفولة، وما لم يُعبر عنه في لحظات الانكسار. هو الإصغاء العميق من مختص محترف لمن لا يستطيع أن يشرح ألمه بصوتٍ عالٍ.
كم من مأساة كان يمكن تفاديها لو أُتيح لصاحبها أن يتكلم؟ لقد أثبتت كثير من الوقائع المؤلمة التي شهدها مجتمعنا في السنوات الأخيرة من جرائم عنف أسرية إلى حوادث انتحار، ومن حالات انفصال حاد عن الواقع إلى تصرفات غريبة عن بيئتنا الاجتماعية، أن المحرّك الأول في الغالب كان دافعًا نفسيًا مهملًا، أو اضطرابًا عقليًا لم يُشخّص أو لم يُعالج. فما يُقابل بالاستهزاء أو التجاهل قد يكون صرخة لطلب النجدة لم يسمعها أحد.
وكم من إنسان يعيش بيننا وهو ينهار في صمت؟
هذا الشهر تحديدًا، هو دعوة لنكسر واحدة من أقسى الأحكام المسبقة: لنتوقف عن وسم من يطلب العون النفسي بـ»المجنون». فالعلاج النفسي ليس عارًا، والاستشارة النفسية ليست دليل خلل، بل هي خطوة ناضجة وواعية نحو الشفاء والنجاة. كم من روح أُنهكت بصمتها، فقط لأن صاحبها خاف من نظرة المجتمع!.
وهنا، تكمن مسؤوليتنا جميعًا. إذ لم تعد الصحة النفسية مسؤولية الأطباء أو المتخصصين فقط، بل مسؤولية كل أسرة، ومدرسة، ومؤسسة، وإعلام. نحن بحاجة إلى بناء ثقافة مجتمعية جديدة تعترف بأن من يطلب المساعدة لا يُعاب، ومن يشعر بالتعب لا يُلام، ومن يعاني من اضطراب نفسي لا يُقصى.. بل يُحتضن.
في ظل التحديات اليومية التي نعيشها، من أزمات اقتصادية وضغوط اجتماعية ووجودنا حتى في وسط ملتهب ونزاعات، تصبح الوقاية النفسية مثلها مثل أي وقاية صحية أخرى. ويصبح السؤال الحقيقي: كيف نربّي أجيالًا أقوى نفسيًا؟ كيف نمنح أبناءنا أدوات التكيّف لا القمع؟ وكيف نصنع من بيوتنا ومساجدنا ومدارسنا ومؤسساتنا فضاءات دعم لا مساحات ضغط؟.
لعل أعظم ما يمكن أن يقدمه بعضنا لبعض في هذا العالم المضطرب هو أن نصغي لما لا يُقال، ونمنح العلاج النفسي مكانته التي يستحقها: كحق إنساني، لا كترف أو عيب.
إن تخصيص شهر للتوعية بالصحة النفسية ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو تذكير نحتاج أن نحمله معنا في كل يوم من أيام العام. تذكير بأن الاهتمام بالصحة النفسية ليس ضعفًا بل شجاعة، ليس ترفًا بل حماية، وليس خيارًا بل واجب.