ولاء حياصات
حين يصبح الفن بوابة للذاكرة ينبت على جدران الحاضر معرضا ليس تقليديًا، بل هو لقاء بين الحضور والغياب، بين الذكريات والواقع، بين ماض ما زال يتنفس في التفاصيل الصغيرة. هنا، لا تعرض اللوحات فقط، بل تستحضر الأرواح، وتعاد كتابة الحكايات بريشة تلامس الزمن.
ولأن الجذور خالدة فالمعرض يبدأ من حيث بدأت الحكاية: لوحة لمدينة السلط حيث ولد فارس المعرض الحاضر دوما رغم الغياب الاديب الكبير مؤنس الرزاز ، السلط تلك المدينة التي حملت ملامح الزمن في حجارتها العتيقة وشوارعها المتعرجة. لوحة تجسد المدينة ومنابت الانتماء، ليست مجرد مشهد بصري، بل ذاكرة مفتوحة، باب ندخل من خلاله إلى عالم يكرر نفسه في فكرنا منذ اكثر من الفي عام ولم يغب للحظة عن كل من وطئ ثراها . والى جانب تلك اللوحة تقف لوحة الأم، ليست جسدا ، ولا فكرة ، بل هوية كبرى بحضورها العاطفي وزيها السلطّي والخلقة وكأن الأم ما زالت هناك ،بل هي هناك بالفعل تحرس احلامنا من براثن الغياب ، تنظر إلى المدينة التي شهدت طفولة ابنها، والتي بقيت جزءا من ذاكرته رغم كل المسافات التي عبرها .
ثم ياخذك المعرض لثلاث لوحات تحيط بالمكان، رسمت ملامحها كأنها لم تغادر أبدًا:
اللوحة الأولى: لوحة لها مع طفلها عمر ، حضنها يحتضن الزمن كما يحتضنه اليوم في الذكرى.
اللوحة الثانية: وهي مع ابنها بعدما أصبح شاباً لكن نظرتها لم تتغير، لا تزال نظرة أم تراه طفلها قبل أي شيء آخر.
اللوحة الثالثة: وهي أكثر حضورًا رغم بساطتها، بثوبها المفضل وشالها الأبيض المعلق على مقعد خشبي قديم، وزهر الياسمين يتناثر حوله، بجانبه موقد القهوة الصغير، وكأنها ستعود في أي لحظة لارتشاف قهوتها، لرسم كحلها، لتكون هنا من جديد.
وفي منتصف الحكاية.وحيث ترك مؤنس أثره الأخيرفي وسط المعرض حيث يلتقي الضوء بالخفقان، تقف لوحة مؤنس الكاتب، ليست مجرد صورة، بل سيرة ذاتية تاريخية لرجلٍ لم يكن كاتبا فحسب، بل صوتا لا يهدأ صداه وهو يتردد حتى بعد غيابه من خلال موروثاته الادبية العميقة في تاريخ الادب العربي المعاصر والحديث . ويستمر المعرض في استحضار اديبنا ، ففي قلب المعرض تتوقف الأقدام للحظات، حيث يلتقي الزائر بالمساحة التي لم يغلقها الزمن بعد. بساط قديم يفترش الأرض، وطاولة خشبية تحتضن كتابا مفتوحا، أقلاما مبعثرة، وأوراقا متناثرة، وكأن مؤنس كان هنا، كان يكتب، كان يفكر، كان لا يزال حاضرا قبل أن يترك كلماته في الريح.
وبين هذا الزخم الكبير من المشاعر المتزاحمة لسيرة اسرة عريقة بقيمها وفكرها ونضالها ياخذك المعرض لصورة لا تموت ، ففي ممر ضيق، تقف لوحة كبيرة، ليست لوجه الأب المناضل، بل لحياته كلها، للنضال الذي لم يكن مجرد معركة، بل رحلة امتلأت بالتضحيات. لم يكن وحيدًا في لوحته، بل كانت العائلة جزءا من المشهد، كأنهم جميعا كانوا جزءا من هذه الحكاية، من هذه المسيرة التي لا تزال تلهم حتى بعد رحيل أبطالها. لوحة من عراقتها كانت كأشجار الصنوبر .
في زاوية أخرى، آلة موسيقية ساكنة، لكنها تتردد في الذاكرة، تعزف لحنا غير مسموع، لحنا كان مؤنس يحبه، وكأنه هنا، بيننا، يبتسم عند رؤيتها. بجانبها، ضيافة معدة، ليست مجرد ضيافة، بل تفاصيل لا تغيب: نوع النوقه التي كانت تفضلها الأم، موقد القهوة الذي كان يملأ صباحاتها، الأثر الذي لا يحتاج إلى كلمات.
اليوم ليس مجرد ذكرى وفاة مؤنس، بل يوم ميلاد جديد لذكراه.
هذا المعرض لا يحيي الغائبين فقط، بل يجعلهم جزءا من الحاضر، من اللحظة،فلحظة دخولك المعرض فإنك تتنفس وجودهم فيها.
ولحظة تغادر ارض المعرض مثقل القدمين ، تغادر وانت تدرك أن بعض الظلال لا تختفي... ، هي حراس أماكنها في الذاكرة.لذى ولد المعرض بإسم : ( الظلال لا تموت ) .
وقبل الختام فإن المعرض هو محاولة خجولة امام عظمة من حضروا فيه ، سواءا كانوا لوحات على صدر جدار التاريخ ، ام حضور تشرفت بتواجدهم معنا في هذا الحدث الراقي .
دمتم ، ودامت محبتكم