جفرا نيوز -
بشار جرار
العاقل كما يقال من اتعظ بغيره. لكن الحكيم هو من استغنى عن الحاجة إلى الاتعاظ لا بأخطاء غيره ولا حتى بالتعلم من أخطائه. «رأس الحكمة» في تراثنا الروحي هي «مخافة الله» وردت في الحديث الشريف وكذلك في الكتاب المقدس.
من المفترض أن تكون الصفقة التبادلية قد رأت النور مع نشر هذه السطور. صفقة تحرير الرهائن الإسرائيليين والمعتقلين الفلسطينيين من المجدول أن تكون قد باشرت بتنفيذ ما ورد في مسودة اتفاق «الفرصة الأخيرة» بين دولة إسرائيل ممثلة بأكثر حكومة يمينية في تاريخها، وحركة حماس المنبثقة عن «جماعة الإخوان المسلمين» التي طغى عليها في السنوات الأخيرة التغول الإيراني. ليس سرا أن الاتفاق ما كان ليتحقق لولا تداعيات حرب السابع من اكتوبر 2023 التي لم تضع أوزارها بعد رغم اتفاقي الهدنة مع حزب الله وحماس.
خمسة أيام على بدء ولاية دونالد الترامب الثانية، وهو الرئيس والقائد الأعلى للقوات المسلحة في أمريكا التي يريدها أولا ويعمل على جعلها عظيمة مجددا على نحو توسعي سيشمل في نهاية المطاف غرينلاند -وفق أقوى وأحدث المؤشرات- وقناة بنما وربما -وهذا مستبعد لكنه غير مستحيل- كندا في وقت لاحق، حتى يصير نصف الكرة الأرضية الغربي أمريكيا خالصا وفق مبدأ مونرو-ترامب!
أيقنت حماس جدية وعيد ترامب، وأدركت إسرائيل أنها رغم دعمها غير المسبوق ليست بمنأى عن ترامب «الجديد» في التعبير عن جديته في دعوتها إلى «التهدئة»، و»إنهاء الفوضى في الشرق الأوسط». هذا ليس مجرد كلام، وإنما سياسة ستصبح أكثر وضوحا بعد معرفة قرار ترامب فيما يخص قضيتين: التعامل مع حكام سورية الجدد، وثمن توسعة اتفاقات الذي قال إنها ستشمل «العشرات من الدول العربية والإسلامية».
قيام دولة فلسطينية -منزوعة السلاح ومنفتحة على مبدأ تبادل الأراضي مع إسرائيل التي لا تخفي هدفها بالموافقة بين أولويتي كونها «عبرية وديموقراطية»، قيام دولة من شروطها أيضا ألا تكون عدائية لإسرائيل، موقوف على توافق دولي يستند إلى «مسار رؤية الدولتين»، تلك الرؤية التي مازالت موضع إجماع عربي إسلامي وفقا لقمتين عربية وإسلامية عقدتا على التوالي في السعودية منذ «طوفان الأقصى»، الطوفان الذي صار زلزالا جيوسياسيا «تسونامي القرن»، بعد دحر نظام الملالي ومحوره. يعلم الحكماء سيما الخبراء منهم في الشؤون التي لا تطرح عادة في الإعلام، أن الوضع أشبه بالمسير في حقل ألغام رماله متحركة في يوم ضبابي عاصف على مفترق طرق!
سخر داهية بريطانيا وأيقونة السياسة والخطابة الإنجليزية في العصر الحديث، ونستون تشرشل، سخر من الجحيم ناصحا من ابتلي به في حياتنا الدنيا بمواصلة المسير.. صحيح أن حني الرؤوس وقت العاصفة فيه نجاة، وصحيح أيضا ودائما الوسطية في «لا تكن لينا فتعصر ولا قاسيا فتكسر»، لكن الأهم من هذا وذاك هو توظيف تلك الضغوط أولا لصالح الحفاظ على الإنجاز وتعظيمه، لا بل البقاء، ومن ثم تقليل الخسائر، وبعدها يكون الحديث عن الطموح والأحلام، لنا ولمن يعنينا أمرهم، الأقرب والأولى..
ثمة بارقة أمل دائما، الطبيعة تذكرنا بانبلاج الفجر بعد اشتداد حلكة الظلام، وبزوغ الشمس بعد العاصفة، كلها صور شعرية جميلة للكتابة والتخيل، لكن الواقع في نهاية المطاف حقائق وأرقام وقوانين طبيعية، وأخطرها التردد في الاشتباك الإيجابي والتأقلم والتكيف الدائم والدؤوب.
لسنا وحدنا في العالم ولا في الإقليم. حتى على الساحة الوطنية، ثمة آراء جديرة بالاحترام ما دامت لا تلغي الآخر ولا تكفّره ولا تخوّنه ولا تسفهّه. هذا أوان رد الاعتبار للدولة القُطرية الوطنية وللقائلين بأن بلادي أولا، للمعترفين بمدى ثقل الاقتصاد والمعرفة والخبرة والحكمة في موازين القوى. وهو أيضا أوان ما استحق منذ قرون لا عقود فقط، ألا وهو دولة المواطنة والقانون والمؤسسات، دولة الهوية الوطنية الواحدة الموحدة، الأردنية، بوصلة ومنارة ومرساة. دولة الحوكمة الراشدة واللامركزية الرشيدة. هو وقت الالتفاف حول سيدنا عبدالله الثاني المفدى ودعمه وإسناده بشكل مطلق وبشتى الوسائل، حتى يتمكن كما هو دائما باقتدار، من العبور بنا جميعا إلى برّ الأمان.