جفرا نيوز -
سهم محمد العبادي
أجلس في زاوية هذا العالم المزدحم، أراقب كيف تحولنا إلى مهرجان كبير من الأضواء اللامعة، حيث كل شيء مؤقت، وكل شيء يلمع ليختفي، كأن «الترند» شهاب يعبر السماء بسرعة، يلفت الأنظار للحظة، ثم يتلاشى وكأنه لم يكن.
زمان، كنا نقول إن الرجال مواقف، وإن قيمة الإنسان فيما يتركه من أثر وفعل، أما اليوم، فقد أصبحت «الرجال ترند».
نعيش في زمن يُقاس فيه الإنسان بعدد الإعجابات، وينحصر موقفه في فيديو قصير أو تغريدة، فالرجال الذين كانوا يقفون شامخين كالأشجار في وجه الريح، صاروا يتسابقون الآن ليكونوا حديث الساعة، حتى لو كان الثمن التخلي عن قيمهم، أو المساهمة في تشويه صورة القيم التي قامت عليها المجتمعات.
وفي هذا المشهد العبثي، يبدو جماعة الترند اليوم وكأنهم أشبه بالعازفين على ظهر سفينة «تايتنك»، يعزفون ألحانهم وسط الغرق دون وعي أو اهتمام بما يجري حولهم، فلا هموم الأمة، ولا أزمات الوطن، ولا حتى هواجس مستقبلهم، تؤثر في إيقاعهم الذي يخدم اللحظة على حساب الغد، فهم يعيشون اللحظة وكأن العالم سيبقى كما هو، غير مدركين أن القيم والأخلاق التي يتجاهلونها هي ما يبني النجاة الحقيقية حين تأتي العواصف الكبرى.
القيم التي كانت تبني المجتمعات، مثل العمل الجاد، الالتزام، والإنجاز، أصبحت الآن في الظل، بينما يسطع نجم التفاهة والمظاهر السطحية.
شبابنا، أولئك الذين كانوا أمل النهضة، باتوا أسرى لهذه الموجة العارمة، يركضون خلف سراب الترند، يبددون وقتهم وأحلامهم في إنتاج مقاطع سريعة، سطحية أحيانًا، يتباهون بها كأنها تاج المجد، فأصبح الترند مثل دوامة، من يدخلها يفقد إحساسه بالزمن، ويخرج منها بلا إنجاز، بلا قيمة، بلا أثر.
حتى ثقافتنا، تلك القلعة التي كانت تصد الرياح العاتية، لم تسلم من لعنة الترند، فالمكتبات التي كانت موطن الفكر والفن تحولت إلى رفوف مغبرة، بينما احتلت الشاشات الصغيرة مكانها، تقدم محتوى سريعًا يسطح العقول بدل أن يفتح الآفاق، فأصبحنا نعيش في عالم اللحظات لا الإنجازات، حيث التاريخ يُختصر في 15 ثانية، والمستقبل يُباع في صورة مبتذلة.
أما الوطن، ذلك الحلم الكبير، فقد أصبح خلفية لصور وفيديوهات تتسابق لنيل الإعجابات، فقضايا الأمة الكبرى تُختزل في وسم رقمي، يشتعل ليوم أو يومين، ثم ينطفئ دون أثر. كأن الترند أشبه بسيول تجرف كل شيء في طريقها، تاركة خلفها أرضًا قاحلة من المعنى والمضمون.
لكن، لا يزال لدينا فرصة. فالإنسانية التي بُنيت على القيم الكبرى مثل الصدق، العمل، والإنجاز، قادرة على مقاومة هذا المد الجارف، وعلينا أن نعظم من شأن من يضيف قيمة حقيقية للحياة، العلماء الذين ينيرون طريق المستقبل، المبدعين الذين يثرون الفكر، والعمال الذين يبنون الطوب طوبة طوبة، هؤلاء هم من يستحقون أن يصبحوا حديث الساعة، وليس أولئك الذين يعومون على أمواج التفاهة.
حين ينطفئ ضوء الترند، سيبقى الوطن بحاجة لمن يزرع فيه الأمل، سيبقى المستقبل ينادي من يريد بناءه بمعاول العمل والأخلاق، فالترند ليس أكثر من سراب يغرينا، لكنه لا يروينا، أما الحقيقة، فهي النبع الذي لا ينضب.
فهل نعود إلى قيمنا الأصيلة؟ هل نستعيد إنسانيتنا، ونُعلّم أجيالنا أن الرجال مواقف، وأن القيم الحقيقية تعيش أبعد من أي «ترند» عابر؟ أم أننا سنظل نعزف على سفينة تغرق، حتى النهاية؟ حتى نصبح يوما ما نحن «الترند».