جفرا نيوز -
بشار جرار
الدخول والخروج من التخدير عملية مضحكة إلى حد كبير ومثيرة للنظر في أمور كثيرة منها الفارق بين الغيبوبة والإفاقة، النوم والموت والحياة.
تعرضت لهذا الموقف مرتين في حياتي واحدة في الأردن والأخرى في أمريكا بفارق نحو ثلاثة عقود. ورغم الفارق بين العمليتين الجراحيتين البسيطتين نسبيا إلا أن «البنج» واحد في مقاييسه، فأي سوء تقدير يعني الفارق بين البقاء وانتهاء الأجل.
اللافت أن عملية الإفاقة في مستشفى الجامعة الأردنية وأحد مستشفيات ضواحي واشنطن واحدة حرفيا وتترجم بالعامية إلى «صحصح معي»! مع حرص طبيب التخدير (الإفاقة) على مناداة المتعافي بالاسم، لما عرفت بعد ذلك أن من أولى علامات الإفاقة إدارك الذات (المُخاطَب)، ومن ثم المنادي، ليأتي بعد ذلك دور استعادة الوعي بالمكان والزمان وأسباب ما يجري، بمعنى العملية الجراحية ومن بعدها «الباقي تفاصيل»! لماذا تم قلع أربعة من أسنان «العقل» في العملية الأولى؟ وتقويم اعوجاج وتر الأنف داخليا لضمان تحسين التنفس من المنخرين الأيمن والأيسر بالتساوي، تفاديا لمضاعفات لا تتوقف عند الجهاز التنفسي. اتضح لاحقا -بعد سنوات- أن هذا النوع من العمليات كان موضة رائجة بالإمكان تفاديها بمجرد مثلا الإقلاع عن التدخين!
لا يستدعي الأمر سجالا ولا جدالا للإقرار بأن كثيرا مما نحن فيه على مستوى عالمي لا إقليمي أو وطني فقط، ما هو إلا تداعيات التغييب الطوعي وأحيانا القسري للوعي والإدراك تحت أي ذريعة كانت حتى وإن كان ذلك -وهو الأكثر شيوعا- دفعا للألم أو جلبا لمنفعة بالإمكان الاستغناء عنها في حال ارتفاع كلفتها أو آثارها الجانبية.
من المعروف في علم النفس آليات الدفاع عن النفس فيما يخص التعرض أو مجرد الإحساس أو حتى الوهم في مواجهة المخاطر أو الآلام. حتى خيبات الأمل لها آلية دفاع لدى الإنسان. وإن كان ثمة خلاف، فإنه يُردّ إلى التباينات الحضارية والثقافية والقدرات العلمية والخبرات الذاتية. لذلك نرى الفارق بين أسرتين من الجيران أو الأقارب مثلا في تعاملها مع حالات الفقد إن كان موتا أو فراقا أو ابتلاء بنعمة أو نقمة كبرى. هؤلاء تراهم حولوا المعاناة إلى حافز تميز، فيما الفريق الآخر سقط بعض أفراده في مستنقعات ودوامات العنف أو الإدمان وما شابه من المعاصي والمثالب.
ليس فقط أطباء التخدير هم وحدهم القادرون على تحقيق هذه الإفاقة المطلوبة في كثير من الساحات -من العمليات- فرديا أو جماعيا، ثمة أدوار لجميع قادة المجتمع خاصة على المستويات الشعبية، وعلى نحو أكثر تحديدا القادة الروحيون والمربون (المعلمون) والإعلاميون والمؤثرون -الحقيقيون والزائفون- والمثقفون من ممثلين ومطربين ورسامين. هذه الفئة الأخيرة صار لها حظوة وسطوة من خلال الرسوم الكاريكاتورية والتعبيرية عبر آليات الذكاء الاصطناعي في تضخيم واستدامة أثر السردية الإخبارية والرسالة الإعلامية. بصرف النظر عن صحة وشرعية ما يتم تداوله في الانتخابات الأمريكية من محتوى دعائي انتخابي، تبين أنها بالغة التأثير خاصة في الأوساط الشبابية والمستقلين والمتأرجحين والمترددين في الاقتراع من الحزبين الجمهوري والديموقراطي. وقد فعلت فيديوهات وصور وتعليقات محتوى القطط والكلاب في مدينة سبرينغفيلد بولاية أوهايو أفاعيلها في ملفات كثيرة أهمها أمن الحدود ومكافحة الجريمة والهجرة غير الشرعية حيث تعرضت المدينة إلى طوفان بشري من هاييتي بلغ ثلث نسبة سكان المدينة.
الخلاصة، أنه قبل أن نفصل ونقطع في صحة تلك الأخبار أو المزاعم حول افتراس الحيوانات الأليفة والطيور في الأنهار والبحيرات من بجع ووز وبط، يتطلب الأمر إفاقة من حالة التغييب والتلاعب بالوعي. «صحصح» معي أولا ومن ثم نختلف أو نتفق -لا فرق- حينها فقط تصح مقولة «خلاف لا يفسد للود قضية»..