جفرا نيوز -
إسماعيل الشريف
«ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة» – البقرة 74.
يكتب العبقري الشهيد غسان كنفاني في روايته الخالدة رجال تحت الشمس: «لقد تغير كل شيء في داخلي منذ أن رأيتهم يسقطون واحدًا تلو الآخر. لم يعد الموت يخيفني كما كان من قبل. أصبحتُ أشعر بأن قلبي قد تحجر، وأن عينيَّ جفتا من الدموع. أصبحتُ أرى الدماء تسيل وكأنها ماء، وأسمع الصرخات وكأنها صمتٌ مطبق. في داخل كل منا شيءٌ قد مات، شيءٌ كان ينبض بالحياة، لكنه الآن دفن تحت ركام القسوة».
منذ اليوم الأول للإبادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة في غزة، تعالت التحذيرات من أن مشاعرنا قد تبهت وتخمد مع مرور الوقت.
سأعترف!
بعد أكثر من عشرة شهور من مشاهد القتل اليومية بالصوت والصورة، شعرت وكأن نتن ياهو قد انتزع قلبي وسلب روحي. لم تعد مشاهد الأطفال الشهداء، والجثث الممزقة، وأكياس الأشلاء، والمقابر الجماعية، وولولة النسوة، وصرخات الرجال تترك نفس الأثر في داخلي كما فعلت في بداية الحرب. ولأكون أكثر صدقًا، ما زالت تلك المشاهد تؤلمني، وتزعجني، وتحزنني، لكن ليس بنفس القوة التي كانت تفتك بي من قبل. إنها علاقة عكسية؛ كلما امتد زمن البؤس، تضاءل الإحساس.
أشعر أن قلبي بات كأيدي الطهاة المتمرسين الذين ألفوا لهيب النار، حتى أن بعضهم يمد يده في الزيت الحارق دون أن يرف له جفن. مع الزمن، نمت طبقة سميكة من اللحم الميت، تسللت بيني وبين الإحساس، لتسلبني آخر ما تبقى من شعور. أصبحت مشاعري مشوهة، مخدرة، كما لو أن هذا القلب قد تحجر تحت وطأة الألم المتكرر، لا شيء قادر على إيقاظه بعد اليوم.
مشاهد القتل في غزة كان ينبغي أن تهزني حتى النخاع، لكن للأسف لم تعد تفعل كما يجب. لقد ماتت إنسانيتي، وتبلدت مشاعري حتى بات الألم لا يجد في داخلي صدى.
كغريق يتعلق بطوق نجاته، تمسكت بمشاعري لأطول فترة ممكنة، ثم وجدت نفسي أمثل كل أشكال الانفعالات. شعرت أن هذا واجب مقدس تجاه أهلي في فلسطين، لكن مع مرور الوقت، لم أعد حتى أملك القدرة على التمثيل. باتت مشاعري تنزلق من بين يديّ، وأصبحت عاجزًا حتى عن ادعاء الألم.
أحن إلى مشاعري التي كانت تحييني، إلى صرخاتي وآلامي وغضبي وحزني، إلى ليالي الأرق ودموعي التي كانت تبلل وسادتي، ورعشاتي التي كانت تهزني تحت بطانيتي. الآن، ذبلت نفسي، وملأني خواء قاتل، خواء يمتص كل ما تبقى مني.
أكره جميع الأوغاد الذين انتزعوا مني أجزاءً من إنسانيتي ومشاعري. وأدرك جيدًا أنني، مهما حاولت، لن أستطيع استعادة ما فقدته؛ لقد شوهوني وحولوني إلى وحش أناني، لم يعد يعرف إلا الصمت واللامبالاة.
اعترافي هذا لا يمحو من ذاكرتي عشرات الآلاف من الأطفال الذين فقدوا حياتهم. اعتقد الوحش مخطئًا أنه بدفنهم سينتصر عليهم، لكنهم ردوا عليه كما قال جيفارا ذات يوم: «لقد حاولوا دفننا، ولم يعلموا أننا بذور». يبقى الآن الدور على نصف المليار عربي الذين دفنهم نتن ياهو ليكونوا سمادًا للأرض.
أريد أن أستعيد نفسي، إنسانيتي، ومشاعري. لا تتركوني كجذع شجرة يابس، أعيدوا لي أغصاني وأوراقي، أعيدوا لي الحياة لتسري في عروقي.
يا ويلي إذا نطق الشجر والحجر ولم تزهر أوراقي بعد، ستكون تلك اللحظة كالشمس التي تشرق من مغربها، يوم لا تُقبل فيه توبة عاصٍ.