جفرا نيوز -
ما الذي حدث في تلك الليلة لروزا باركس لترفض التخلي عن مقعدها بالحافلة؟ هل توترت أم كانت مجهدة أم أن صرخة السائق يبست أطرافها؟
لم تكن روزا ناشطة سياسية بل كانت امرأة تطوي ساعات عملها الطويل نهارا لتعود مساء إلى منزلها في مونتغمري عاصمة ولاية ألاباما الأمريكية.
كانت امرأة عادية من بيئة أقل من المتوسطة، ويومها لا يكاد يختلف عن يوميات جيرانها الذين يقصدون صباحا أماكن عملهم ويعودون منها مساء مستنزفين لا يرجون سوى لقمة وقسط من الراحة.
القصة كان الأول من ديسمبر/كانون الأول 1955، بداية شهر ونهاية عام، لكن لا أحد كان ليتخيل ولو مازحا أنه سيكون بداية ثورة تؤسس لحقبة جديدة.
اقترب الليل، فقامت روزا من مقعدها الصغير الذي تدسه وراء ماكينة الخياطة وتنكب عليها لساعات طويلة قبل أن تجبرها خيوط الظلام على الاستعداد لرحيل مؤقت.
وخرجت روزا من عملها وتوجهت إلى محطة للحافلات تقصدها كل يوم للعودة إلى المنزل.
كانت متعبة لدرجة أنها كانت تشعر بالنعاس بمجرد وقوفها تنتظر لأكثر من 5 دقائق، لكن صوت محرك الحافلة وهي تصل منعها من الاستسلام لتعبها، فركبت ومن حسن حظها كان الركاب قليلين.
وأكثر ما أثار سعادتها هو أن الصفوف الأولى المخصصة لذوي البشرة البيضاء كانت فارغة، همت بالجلوس ثم عدلت عن ذلك حين تذكرت أنه لا يمكنها الجلوس فيها حتى وإن كانت فارغة لأنها مخصصة للبيض وحدهم، والقانون الأمريكي يمنعها كسمراء أفريقية من الجلوس في مقاعدهم.
للحظة، راودها ذلك السؤال مرة أخرى: "لماذا؟ هل أنا من جعلت بشرتي سمراء؟ وماذا إن كنت سمراء؟ أي فرق يحدثه ذلك بيني وبين شخص أبيض؟"، وفق ما روته لاحقا.
لحسن حظها أن كراسي منتصف الحافلة فارغة أيضا، فهناك يمكن للأفارقة الجلوس طالما لا يوجد شخص أبيض واقفا، أي أنه لا يسع الأسمر الجلوس إلا إذا لم يكن هناك أبيض يبحث عن كرسي.
انطلقت الحافلة بطيئة كعادتها، تتوقف في محطات فينزل ركاب ويصعد آخرون، وفي خضم تلك الحركة، امتلأت مقاعد البيض الأمامية وكان هناك منهم من يقف بحثا عن مقعد.
حين لاحظ سائق الحافلة ذلك، أمر الأفارقة في صف روزا بالقيام من أماكنهم والوقوف بالمؤخرة.
وكانت لهجته مترفعة حاسمة في البداية، لكنه حين أعاد جملته كانت صرخته كافية لأن تجعل جميع الركاب من ذوي البشرة السمراء يقفزون إلى مؤخرة الحافلة، باستثناء روزا.
لم تكن روزا قد أضمرت مسبقا عدم التخلي عن مقعدها، لكن في تلك اللحظة التي علا فيها صوت السائق وهو يصرخ، التصقت بكرسيها وصوت ما في داخلها يقول لها لا تتحركي من مكانك.
عندما تفطن السائق لوجود "متمردة"، توجه إليها للمرة الأخيرة يسألها بتعال إن كانت ستترك مقعدها وإلا سيعتقلها، فأجابته بـ"لا" ورفضت التحرك من مكانها.
تم القبض على روزا لأنها لم تتخل عن مقعدها وفق قانون الفصل بين الركاب على أساس اللون، ودفعت غرامة قدرها عشرة دولارات.
"شعرت بأن لي الحق في البقاء حيث كنت"، قالت روزا في مقابلة معها جرت لاحقا، مشيرة إلى أنه إن كانت معارضتها كلفتها السجن والغرامة فإن ذلك ثمن قليل أمام ما جرى لاحقا.
كان ثمنا باهظا أن تطعن تلك العاملة البسيطة بكل تلك الجرأة في شرعية الفصل العنصري، قبل أن تقرر استئناف القضية.
لم تخطط روزا لذلك "التمرد" على قانون الفصل العنصري البشع بحقها وبحق جميع أصحاب البشرة السمراء، لكنها كانت لحظة ثورة ذاتية أو انزعاجا شخصيا راكمته الأيام حتى انفجر.
ملهمة لم يمر موقف روزا مرور الكرام، فلقد حظيت بالإشادة والإعجاب وباتت مصدر إلهام للعديد من قادة حركة الحقوق المدنية والمقاومة اللاعنفية للظلم الاجتماعي.
ولاحقا، انتشرت دعوات لحملة مقاطعة حافلات مونتغمري من قبل جميع الكنائس السوداء، في محاولة للضغط من أجل أن يحصل الجميع على حق ركوب الحافلات بشكل متساو وحر، والحق في الجلوس بأسبقية الحضور.
لاقت الدعوات استجابة واسعة، وبالفعل انضم أكثر من 99 بالمئة من الأمريكيين الأفارقة في المدينة إلى رافضي ركوب الحافلات، فكان الناس يقصدون أماكن عملهم سيرا على الأقدام أو على الدراجات.
وجراء ذلك، عانت شركة النقل من عجز في العائدات تخطى آلاف الدولارات، ولاحقا سرت العدوى إلى مدن أمريكية أخرى، ووضعت هذه المقاطعة لوثر كينغ في دائرة الضوء كناشط وحقوقي وطني حتى أصبح القائد المعترف به لحركة الحقوق الوطنية الوليدة.
ورغم محاولة المسؤولين حينها وأد الثورة في مهدها، فإن المقاطعة استمرت فيما بدأت بالتوازي مؤتمرات من أجل قلب قوانين الفصل العنصري المعروفة بـ"جيم كرو".
استمرت المقاطعة 381 يوما، وساءت الأمور بشكل غير مسبوق، ما اضطر المحكمة الجزئية الأمريكية للمنطقة الوسطى في ألاباما لإعلان أن قوانين "جيم كرو" غير دستورية.
حدث ذلك في يونيو/ حزيران 1956 قبل أن تؤيد الإعلان، بعد 5 أشهر فقط، المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ظل الخسارة الفادحة لشركة النقل، لم يكن أمامها سوى رفع قوانين الفصل العنصري عن حافلاتهم حتى انتهت المقاطعة رسميا في 20 ديسمبر/ كانون الأول 1956.