الدكتور بسام الساكت
في اقتصادنا، ومجتمعنا، وفي عاصمتنا، كغيرها من بلدان وعواصم، تنمية غير متوازنة، تعيبها ظاهرة الازدواجية الاقتصادية الاجتماعية Socio-Economic Dualism.
إذ نشهد قطاعات ثرية رقيقة الشريحة، واخرى شريحة كبيرة ضعيفة محتاجة؛ تجد اقاليم ومجتمعات وأسواق غير متوازنة: منها قوية غنية، وأعلى دخلًا، واخرى الاعظم حجماً وعددا، هي المحتاجة. ذلك حصاد غير محمود Bitter Harvest لمحاولات تنمية اقتصادية اجتماعية تراكمية غير متوازنة. وهي مظهر تنموي علٌمني ان أصفه بذلك، معلِّمي الاقتصادي السويدي صاحب مجلدات: الدراما الآسيوية Asian Drama، «قونار ميردال» أثناء دراستي في جامعة اكسفورد عام 1968. وتعمقت معرفتي بالاصطلاح بالممارسة. واليوم يعِدُ رئيس وزراء بريطانيا سوناك، الشعب البريطا?ي إصلاح ظاهرة الاعوجاج والازدواجية والتفاوت في النمو والأجور بين المهن والأقاليم عنده، ويسميها ب ال Leveling.
وعندنا في الأردن يبرز في إقليم عمان «نماذج» تنمية وحياة وأسواق: غرب المدينة وشمالها ووسط البلد. القلّة يعرفها عن كثب. فهناك منطقتان وسوقان أحدهما في رأس العين العليا، والثانية منطقة سقف السيل والموازية لشارع الملك طلال وجواره. يغلب على الاولى فلاحين وفلاحات، باعة من الغور الاوسط وناعور وجرش وزيزيا يبيعون خضارا وفاكهة موسمية ومنتجات الالبان البيتية. والسوق الثاني مزيج من باعة الخردة والملابس والعاب الاطفال والادوات المنزلية المستعملة، وباعة الدواجن والطيور والخضار والفاكهة. هم مزيج من باعة ومتسوقين ومن شباب?رأس العين واحياء وسطية من القلعة وشرق عمان.
فكلما زرت هذه الاسواق، ووسط البلد، بعد فجر يوم الجمعة، كعادتي من سنين، أعود بعد كل زيارة بأفكار تسعفني، وأخرى تقلقني خاصة حين ألمس درجة العوز وتدني النظافة وتلوث المكان وفوضاه المنظمة وبالمقابل ألمس إصرار الناس على الكدح. وأرجع الى منزلي بعدها أكثر حكمة وحمدا لله.
لدينا في سوق وسط المدينة «قوة شرائية» عالية، واعلى منها في مناطق واسواق داخلية اخرى. وتلمس بزيارة وسط المدينة، تنوع الباعة والحضور من كبار سن و اطفال ونساء وشباب في العشرينيات، وكيف يشتري الفقير بيننا، وبديناره، الكثير: بدينار يشتري حذاء او سترة وبخمسة او عشرة دنانير يحصل على ما يستر جسده وقدميه ورأسه من البرد.
ومن يتصدق على محتاج هناك يحصد راحة وهداة بال فدينارك المنفق على سائل او محتاج، أو بائعة منزلية، له قوة شرائية عالية، وله قوة أعظم عند الخالق. يملأ المحتاج هناك بقوة ديناره، بطنه ويسعف حاله بأرغفة وزِرِّ بندوره غير مغسول؛ هناك ترى مشاهد تُوَسِّعُ باب المعرفة، وتصبح الكتابة عنها ذخيرة مجتمعية للباحث والمسؤول ممن له قلب. ترى في السوق أطفالا ورجالا نيام من ليلة الجمعة على جانب المحلات يتدفأ بعضهم ببطانية مهترئة محاطا بأكوام من ملابس مستعملة واحذية أُعيد تدويرها. لا تزعجهم الحركة والروائح والضجيج. وترى أماً مع ?فلتها واخرين يتجمعون على نار من كِسَر خشب تعبئة الخضار او كرتون واغلفة مستعملة، لا يكترثون لرائحة الدخان طالما تعطيهم دفأً من برودة الصباح.
وترى شباباً مراهقون واكبر، يحملون اقفاصا واكياسا من ورق بها حمام للبيع والتبادل، في سوق الطيور والحيوانات المدجَّنة والمحمية الممنوعة. وتجد حتى كلابا اوروبية يظهر عليها الدلال، مكسيٌ بعضها بلباس الكلاب الخاصة، هي للبيع، لا أدري من اين جاءت او من هم مالكوها؛ وترى قططاً سمينة عنيدة جرئية، تتناول سقط اللحم المجمد ومن كرم بائعي اللحم البقري او لحم الجمال، قططْ تنظر اليك بتحدٍ دون خوف او اكتراث.
ولا تتفاجأ في السوق فترى اجانب يتجولون أو يتسوّقون البضائع الرخيصة من مخلفات اسواق الغرب، وأطفال لا يتجاوزون العاشرة يقوى عودهم يدللون بأصوات ملفتة، بين ركام كبير من العاب الاطفال المستعملة، واحذية وملابس صيفية وشتوية تصلح للمتزلقين على الثلوج، استخدمت في رحلة تزلج ثم أُلقيت في سلة المهملات هي جديدة عند المحتاج. كما يمكن لعامل او فلاح او لاجئ من بلاد العرب المنكوبة بأيد خارجية او بأيدي اهلها، وبدينار واحد، ان يكسو نفسه واهله. وتُحسُّ بالقوة الشرائية للدينار عندما تسمع دعاء محتاج لا يسألك، لكن مظهره ونظراته?تصرخ وتناديك ويسعد المتصدق فلدينا عائد اكبر، فهو يقرض رب العالمين قرضا حسنا فيضاعفه له في الاخرة!.
وفي احدى زياراتي للاسواق في قلب المدينة، تقدمت نحو عرباية لبائع جوافة–الفاكهة التي اعشقها ويكره رائحتها البعض. سألت البائع عن سعر الكيلو، فاجابني: «للدكتور بسام ببلاش». اندهشت وسألته عن شخصه وكيف ومن وراء شماغي ونظارتي الداكنة تعرف عليّ.. اجابني عرفتك من صوتك. ونادى صاحب عرباية اخرى مجاورة يبيع خضارا، تبين لي انه قصد ان يكون جاره شاهدا على ما سيقول. فسألته عن نفسه فاجاب انا وزميلي مدرسيين، ونعمل باعة، نكسب دنانير بجانب التعليم.. وناشدني بشدة نقل المشهد. وكم من مرة اثناء حديثي، يسألني البعض للتعرف، ويذكرون ?نهم يعرفون «هذا الوجه» لا الإسم. فأداعبهم بقولي: «أنا أحياناً أُغنّي على التلفزيون"! لكن معالم وجوههم تبدو غير مصدِّقة. فيصرون على معرفة الاسم.
وبعد الفجر في هذا السوق يجتمع عليك صبية اطفال ذكور واناث لا يتجاوزون الحادية عشرة، عيونهم تنظر الى يديك وجيبك، تنشد الاستجابة؛ وبين هشاشة المظهر ورثته ترى اطفالا يُسرِّحون شعرهم ويلْمعونه، مقلدين ابطال كرة القدم، مِسِّي ورونالدو، دون كريمات، بل من زيوت أخرى فلو أجرى صديقنا الباحث المتمكن -الدكتور ابراهيم بدران، الذي أصدر كتابا عن قياس السعادة، فلو حاول قياس درجة سعادتهم سيجد الرقم القياسي للسعادة عندهم عاليا، رغم الفاقة والعجوزات المادية. هم اثرياء معنويا، يتقاسمون بينهم القرش والدينار والرغيف بسعادة ورضى.?وقرشهم ودينار بيدهم له قوة شرائية عالية، في سوق المدينة هذا يوم الجمعة في حين تضعف هيبة الدينار وقوته الشرائية في اسواق المدينة الاخرى. وبالمقابل، لو اجرى دكتورنا بدران قياسا لدرجة السعادة عند آخرين من ذوي الجيوب المليئة، سيجد الرقم القياسي للسعادة عندهم هابطا متقلبا، قَلِقاً، رغم فائض المادة في المحافظ والخزائن والبنوك والخارج. ولا يسعف بعضهم مؤقتا، إلا حبوباً من صيدلية مجاورة.
نحن اليوم، وبالامس، وما زلنا، لا نريد «فقط» بنية تحتية إسمنتية متطورة، ولا نريد أعلى عمارات؛ نريد بنية اجتماعية اقتصادية، ومدُناً نظيفة عامرة بالعدل والمصداقية، يعلو ظهور جيادها فرسان، ذوات كفاية، متنورة، تتحلَّى بالمصداقية وبالمودة؛ نريد قلوباً بيننا أكبر، وصدوراً عامرةً بالرحمة والمحبة والعطاء. هي شبكة أمان متينة وبوليصة تأمين إجتماعية وسور عظيم يقينا من الخصوم. لا ننشد أبنية وابراجاً عمودية زجاجية او فولاذية باردة متباعدة، نريد صفوفاً اجتماعية متماسكة مؤونتها المعرفة؛ نريد جسورا افقية فولاذية او حتى خشب?ة، ممتدة تربطنا ببعضنا، وتعْلُو بِنا، منسوجة بالوُدِّ والتراحم ومخافة الله.
حتما تحقق لدينا تنمية لكنها غير محصّنة من الخلل. وإن ما سلف ذكره هو صورا ومجسمات لا يغيب علاج عيوبها عن المسؤول.
وبحكمة انسانية دهرية، هي بنظري ايضا، وصفةً طبيةً لِهَدَاةِ البال، أذْكرُ ما رواه الامام مسلم في صحيحه عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: «أنظروا الى من هو اسفل منكم، ولا تنظروا الى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ان لا تزْدَرُوا نعمة الله عليكم». وكما قيل بحكمة ايضا: اسعوا للرِفْعةِ عن طريق ضِعافِكُم فكم من نعمةٍ من الله علينا في بلدنا، يتغافل الكثيرون عنها وينكرها البعض. فالحمد لله واجب، حتى نُصَنَّفَ وبجدارةٍ، عند الله، من القِلَّة الشاكرين.