النسخة الكاملة

ذياب مشهور وتلك الأغاني الضائعة في كل مكان

الخميس-2022-09-29 01:52 pm
جفرا نيوز -
جفرا نيوز - لعلّها لم تجفّ بعد دموع المغني السوري ذياب مشهور (1946 - 2022)، التي ذرفها خلال الحفل التكريمي الذي أقامته وزارة الثقافة السورية، في احتفالية "يوم الثقافة" عام 2019. 

لم تكن دموع مشهور حينذاك لحظة عابرة هيأتها طقوس الاحتفال والحضور الإعلامي. فالمشهد الحميمي المنجز افتقر لحسابات عاطفية ونفسية مدفونة في صدر الرجل منذ أكثر من عقدين من الزمن. ولن نبالغ إذا قلنا أكثر من ثلاثة عقود. أي منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي؛ إذ شهدت تلك الفترة انحساراً تدريجياً لحضوره الفني. وقد استمرّ هذا الانحسار حتى عام 2000، ليعلن حينها مشهور، للأسف، اعتزاله الغناء والحياة الفنية بشكل رسمي، بعد أن خُنقت تلك النجاحات على مرأىً من عينيه.

بالطبع، هناك عوامل عدة كانت سبباً لاختفاء مشهور عن المشهد الفني السوري. لكن لم يكن من بين تلك العوامل ما يعادل تأثير الإعلام والصحافة اللتين استبعدتاه لسنوات طويلة، إلى جانب موجات المد الثقافي الغربي والتطور التكنولوجي والتوسع الرقمي في السوق الفنية والموسيقية، إضافة إلى عامل السن. وهذه عوامل قد تبدو واهية أو غير مباشرة للبعض، لكنها في صيغتها التحليلية تشكل آثراً بالغاً في سبب غياب مشهور عن الساحة.

وقد يتساءل البعض عن حجم الشهرة والنجاح اللذين حظي بهما مشهور مطلع السبعينيات والثمانينيات؟ وعن عدم تذييل نجاحه ذاك بالحظوة والمكانة والتقدير؟ ونحن بدورنا نتساءل ما الفارق - على سبيل المثال - بين ما ناله مشهور وبين ما ناله المطرب الراحل صباح فخري من سمعةٍ وتقديرٍ وشهرةٍ؟

إن نظرنا إلى الحالة الاجتماعية والجغرافية لكلٍ منهما على حدة، فإن تقييم المسألة ستكون له أبعاد تاريخية وسياسية، لا فنية. ولنكن دقيقين أكثر، ربما نحتاج إلى تشريح المجتمع السوري إلى طوائف وشرائح لفهم وإدراك أثر التركيب الديمغرافي، وهو أمر نحن لسنا بصدد الخوض فيه. يكفينا معرفة البيئة التي قدم منها مشهور، قبل دخوله دمشق، ولحاقه بالإذاعة السورية قبل انطلاقته الكبرى عبر مسلسل "صح النوم" و"ملح وسكر"، بداية السبعينيات، برفقة دريد لحام ونهاد قلعي، وثلة من مشاهير الدراما السورية في تلك الفترة. 

ولد مشهور وتربى وعاش فترة شبابه في مدينة دير الزور شرق سورية. واستطاع في فترة وجيزة أن يحقق شهرة متواضعة على مستوى المحافظة، من خلال بعض الحفلات والمناسبات الشعبية، دفعته لتحقيق أحلامه في نقل الأغنية الفراتية إلى مختلف أطياف المجتمع السوري. ولتحقيق هذه الغاية، كان لا بد له من التوجه إلى العاصمة، التي كانت تشهد حالة ولادة فنية وثقافية ارتبطت بالمتغيرات السياسية والاجتماعية على مستوى البلد والمنطقة العربية، ولا سيما بعد نهاية حرب حزيران التي تلاها قيام الحركة التصحيحية على يد حافظ الأسد، بعد ثلاث سنوات من النكسة. 

هذه المتغيرات كانت لها انعكاسات بنيوية، رسخت مفاهيم عقائدية وطائفية وبيروقراطية سطرها نظام الأسد الأب، وفق منهجية صارمة وثابتة، طبعت على إثرها مكونات المجتمع السوري، وحددت له واقعه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. 
يدرك مشهور هذه التركيبة تماماً. ويعلم أن المناطق البعيدة عن مراكز الثقل والجذب تلك لم تكن تلقى الرعاية الكافية على جميع الأصعدة لأسباب عدة: بعدها الجغرافي وديمغرافية تلك المناطق، والحالة القبلية والعشائرية التي تهيمن على معظمها.


لذا، كان معيار النجاح مرتبطاً بمقومات لم تكن تملكها تلك المناطق، رغم أنها تزخر ضمنياً بأفراد ذوي مستوى فني وأدبي وثقافي وتعليمي عالٍ، شأنها شأن دمشق وحلب تحديداً، العاصمة الاقتصادية لسورية، لما تتمتع به من مكانة تاريخية وإرث علمي وثقافي وفني وتاريخي منذ أيام الدولة الحمدانية والدولة العثمانية. والمظاهر الفنية واحدة من أهم السمات التي تتمتع بها، ولا سيما ما تشتهر به من فرق ومطربين، أمثال صباح فخري وصبري مدلل ومحمد خيري، وغيرهم ممن امتازوا بتقديم اللون الطربي الأصيل من قدود وموشحات صٌدِّرتْ للعالم العربي أجمع.

ربما نجيز القول حول إنجازات مشهور وما قدمه طوال مسيرته الفنية، مقارنة بباقي مشاهير الغناء السوري، إنها كانت بحاجة إلى اجتثاث الفعل الثقافي والفني أو رفعهما على الأقل عن صلتهما بالمكان والمجتمع للتخلص من القيود الجغرافية والطبقية التي تحاصرهما.

غير أن ذلك لا يقلل من درجة النجاح والشهرة اللتين حظي بهما مشهور بعد سنوات من الكفاح والمثابرة، قدم خلالها أغنيات حافظت على اللون الفراتي، ورفعته إلى مراتب متقدمة في الوسط السوري والعربي، ليكون واحداً من أندر فناني البادية السورية جرأةً وطموحاً وتفرداً، ولعل أشهر أغانيه "يا بو ردين" و"ميلي عليا ميلي" و"عالمايا". 

العربي الجديد