جفرا نيوز -
جفرا نيوز - اكتسبت زيارة جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين إلى فرنسا في الرابع عشر من سبتمبر 2022 الكثير من الأهمية بحكم العلاقات الاستراتيجية التي تربط المملكة الأردنية الهاشمية بالجمهورية الفرنسية من ناحية، وبحكم التوقيت الذي يأتي في ظل أوضاع إقليمية ودولية يسودها التوتر وعدم الاستقرار من ناحية ثانية، لذلك حملت الزيارة الكثير من الدلالات التي تستدعي الوقوف عندها.
تعود العلاقات الاستراتيجية بين الأردن وفرنسا إلى العام 1948 مع أول تمثيل دبلوماسي بين عمان وباريس، وكان جلالة الملك عبد الله الثاني أول زعيم عربي استقبله الرئيس الفرنسي ماكرون بعد انتخابه في العام 2017، وتُشكل زيارة جلالته الأخيرة الزيارة الثامنة لفرنسا بعد ذلك اللقاء، كما تغطي العلاقات بين الأردن وفرنسا كافة مجالات التنمية الاقتصادية والثقافية.
ففي المجال الاقتصادي تجاوزت قيمة الاستثمارات الفرنسية 1.5 مليار يورو في عدة قطاعات حيوية في الأردن، بالإضافة إلى تقديم قروض ومنح ميسرة بقيمة مليار يورو كل ثلاث سنوات من خلال الوكالة الفرنسية للتنمية، وفي المجال الثقافي يرتبط البلدان باتفاقية تعاون ثقافي وعلمي وتقني منذ العام 1965، وتم تطويرها في العام 1995، كما شكّل إنشاء المدرسة الفرنسية الدولية في عمّان في العام 2013 خطوة متقدمة لتعزيز علاقات التعاون الثقافي بين البلدين.
التوقيت والملفات الهامة
تأتي زيارة جلالة الملك عبد الله الثاني لفرنسا في توقيت دقيق. قبيل توجه جلالته للمشاركة في لقاءات الدورة السابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك وإلقاء كلمة المملكة الأردنية الهاشمية فيها، وبعد أسابيع من كلمة الرئيس الفرنسي خلال المؤتمر السنوي لسفراء فرنسا عبر العالم، والتي ربط خلالها زيارة جلالة الملك بالدعوة إلى عقد قمة بغداد الثانية، وبعد شهرين من زيارات فردية لمجموعة من القادة العرب لفرنسا، حيث زارها كل من ملك البحرين، ورؤساء (الإمارات العربية المتحدة، ومصر، والسلطة الفلسطينية)، بالإضافة إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
كما تأتي الزيارة في ظل أوضاع إقليمية ودولية معقدة على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، وهي أوضاع تلقي بتأثيرها المباشر على الأردن، خاصة في ملفات مكافحة الإرهاب، والقضية الفلسطينية، والملف النووي الإيراني، والأزمات السورية واللبنانية والعراقية، بالإضافة إلى تحديات الأزمة الغذائية الناتجة عن الحرب في أوكرانيا.
ففي ملف مكافحة الإرهاب فإنّ للأردن مكانة جيوسياسية مركزية في الجهود الإقليمية والدولية الهادفة إلى محاربة الإرهاب، وبالتالي المحافظة على أمن المنطقة واستقرارها، وفي ضوء هذه المكانة الجيوسياسية تظهر أهمية التعاون الأردني الفرنسي، وهو تعاون مستمر برز في المشاركة الفرنسية الفاعلة في الاجتماعات الدولية لمكافحة الإرهاب في مدينة العقبة في ديسمبر 2017، كما برز في التسهيلات التي قدمها الأردن للطائرات الفرنسية خلال حملاتها الموجهة ضد تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق وسوريا.
التهديدات التي تمثلها المجموعات الإرهابية، كما مجموعات الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات، تهديدات مستمرة، لذلك كان من المهم تعزيز مجالات التعاون الأردني في مواجهة تلك التهديدات على المستويات الإقليمية والدولية، ومن هنا تأتي أهمية تعزيز هذا التعاون مع فرنسا صاحبة الخبرات الأمنية الكبيرة، خاصة في الملفين السوري واللبناني.
وفي ملف القضية الفلسطينية لا تخفى المكانة الاستراتيجية لتلك القضية بالنسبة للأردن، وهي قضية تمر في أصعب مراحلها، في ظل غياب أفق الحلول السياسية وتراجع فرص حل الدولتين وتزايد احتمالات التصعيد العسكري في الضفة الغربية، وهي احتمالات لن يتوقف تأثيرها على الأراضي الفلسطينية وإسرائيل، ولا تخفى المواقف السياسية الفرنسية المنسجمة مع الموقف الأردني، وسعي فرنسا والاتحاد الأوروبي للعب دور أكثر فاعلية في حل القضية الفلسطينية.
الموقف الفرنسي من القضية الفلسطينية لا يزال متمسكاً بحل الدولتين، ويرفض أي تغيير للأوضاع التاريخية لمدينة القدس ومقدساتها من جانب إسرائيل، وهو موقف يتقاطع مع تأكيد جلالة الملك خلال لقائه بالرئيس الفرنسي على "ضرورة تحقيق السلام الشامل والعادل على أساس حل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية"، بالإضافة إلى تشديد جلالته على "ضرورة ضمان مشاركة الفلسطينيين في المشاريع الاقتصادية الإقليمية، والتحذير من استمرار الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب، التي تقوّض فرص تحقيق السلام، وتعرض المنطقة لمزيد من العنف".
أما الملف النووي الإيراني يعتبر ذو أهمية كبيرة في مسار العلاقات الاستراتيجية الأردنية الفرنسية، والطرفان يشتركان في مقاربة تحذّر من فشل المفاوضات الدولية المتعلقة بهذا الملف وتداعيات ذلك الفشل الخطيرة على المنطقة والعالم، في ضوء سياسية خارجية أردنية تحرص على تأسيس "علاقات جيدة مع إيران قائمة على الاحترام المتبادل واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية".
إلى جانب ذلك فإنّ الملفات السورية واللبنانية والعراقية لا تقل أهمية عن باقي الملفات، في ضوء الموقف الأردني الداعي إلى "ضرورة التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، يحفظ وحدة سوريا أرضاً وشعباً، ويضمن عودة طوعية وآمنة للاجئين"، و "أهمية مواصلة الجهود المبذولة لدعم استقرار لبنان"، و "ضرورة الحفاظ على أمن العراق واستقراره لتجنيب المنطقة أي تهديد لأمنها واستقرارها".
ويضاف إلى كل تلك الملفات الهامة تحديات الأزمة الغذائية الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، وما أعلنه جلالة الملك من "استعداد الأردن للتعاون مع دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة تحدي الأمن الغذائي، والتخفيف من تداعياته على العالم، من خلال مبادرة (فارم) التي أطلقها الاتحاد الأوروبي لزيادة الإنتاج الزراعي"، وتأكيد الرئيس الفرنسي، في المقابل، على "دعم فرنسا للأردن ودول الشرق الأوسط الأخرى في وجه الأزمة الغذائية الناجمة عن النزاع في أوكرانيا".
الرهانات الإقليمية ومؤتمر بغداد الثاني
كثّفت الملفات المحيطة بزيارة جلالة الملك عبد الله الثاني لفرنسا، وعلى رأسها الملف النووي الإيراني ومكافحة الإرهاب والوضع في العراق، من مكاسب تلك الزيارة التي نتج عنها الدعوة المشتركة بين عمّان وباريس إلى عقد مؤتمر جديد "في أسرع وقت ممكن" حول رهانات الشرق الأوسط، على غرار مؤتمر بغداد الذي انعقد في أغسطس 2021، وهو المؤتمر الذي حقق نجاحاً بحكم طبيعة المشاركة الإقليمية فيه، وفتحه آفاقاً للحوار بين دول الخليج العربي وإيران بشكل خاص.
المؤتمر الجديد من المفترض أن تستضيفه العاصمة الأردنية عمان، وسيشكل في حالة انعقاده، تعزيزاً مهماً لدور الأردن الإقليمي، ونجاحاً للدبلوماسية الأردنية، كما يشكل فرصة لتخفيف التوتر والمساهمة في حل أزمات المنطقة، السياسية والأمنية منها بالتحديد.
ختاماً؛ تشكّل زيارة جلالة الملك عبد الثاني بن الحسين الأخيرة لفرنسا خطوة إضافية في طريق طويل، وربما لن تظهر جميع مكاسبها بشكل مباشر أو في المدى القريب، لكنها تعطي الكثير من المؤشرات على مركزية الدور الأردني في إقليم الشرق الأوسط من ناحية، وعلى التقدير الدولي لذلك الدور من ناحية أخرى، وتؤسس "لمرحلة جديدة في الشراكة الاستراتيجية بين عمان وباريس، ومواصلة العمل المشترك لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية" التي يواجهها الإقليم والعالم بأسره.