جفرا نيوز- محمود كريشان
لاشك ان كل فرد منا بينه وبين الحلاَّق علاقة شبه منتظمة، تتكرَّر دورياً وفق إيقاع منتظم.
فالحلاق هو الشخص الذي أوكلنا إليه قص شعر رأسنا مرةً، وراق لنا أداؤه، فتحوَّل إلى «الحلاَّق المعتمد» الذي نقصده دون غيره كلما احتجنا إلى قص شعر رأسنا، بل ويكاد الحلاق أن يكون جزءاً من نسيج العلاقات الاجتماعية أكثر مما هو مهني يؤدي عملاً محدداً، وحتى لو لم يتحوَّل محل الحلاقة الذي نألفه إلى صالون ثقافي أو سياسي او اجتماعي، تتضمَّن زيارتنا له نكهة جميلة في الألفة، ونشعر دائماً بالرضا عنها، ولذلك وغيره، فإن حلاَّق كل منا هو دائماً أفضل الحلاَّقين.
في هذا التقرير البسيط، نذهب إلى زيارة أعرق صالون نقصده في هذه الجولة، ونشاهد ما تبقى من أدواته قليلة العدد: مقص ومشط وسيشوار «مجفف شعر» ومرآة وكرسي، وماكينة قص كهربائية وماشابه ذلك.. عندها نسلِّم رأسنا للحلاَّق الماهر العريق كي يقص ما طال من شعرنا ويهندس شكله مثل «عريس الزين» إن جاز التعبير!.
حكايتنا عمانية بامتياز، من أحد اعرق صالونات الحلاقة في وسط المدينة على الإطلاق، وتحديدا في دخلة قردن المتفرعة من شارع فيصل بعد المقر السابق لمركز أمن المدينة، حيث تقودك الخطى الباحثة عن الاناقة والرقي والجمال، لتكون بمواجهة صالون الكرمل، الذي يشمخ في مكانه منذ عام 1962 ويقدم خدمات الحلاقة المتنوعة والرشيقة لنخبة من كبار الشخصيات والمسؤولين والاعيان والوجهاء، الذين عرفوا المهارة والخُلق الرفيع الذي يتحلى به عميد الحلاقين العمانيين وأعرقهم محمد عبدالسلام حجير «ابوالعبد».
*ذاكرة خصبة
«جفرا نيوز» كانت في الصالون العماني العريق ونبشت ذاكرة حلاق البلد ابوالعبد حجير، الذي خالف العُمر وعاد لسالف اعوامه، وهو يسرد جزءا من ذكرياته مع المهنة التي احبها وعشقها منذ نعومة اظافره..
وهو يسرد جزءا من ذكرياته مع المهنة التي احبها وعشقها منذ نعومة اظافره.
وقال: اعمل في هذه المهنة منذ (60) سنة وفي هذا المكان وحتى الآن، بعد ان تعلمت المهنة من والدي الذي كان يعمل بمهنة الحلاقة في مدينة حيفا في فلسطين، ومن ثم انتقل الى عمان وواصلنا سوية المشوار.
ويسترسل في استعادة شريط الذكريات الجميلة ويقول: عمان في الستينيات من القرن الماضي كانت «صغيرة»، لكنها أيضا كانت «كبيرة» بأهلها، الذين كانوا أشبه ما يكونوا بـ»العائلة الواحدة»، وكان في مطلع الستينيات في عمان نحو (10) صالونات حلاقة في عمان، واعتقد انني آخر حلاق من الرعيل الاول، وكان هناك عدد من الزملاء في المهنة منهم من غيبه الموت وارتبطت معهم بعلاقات محبة وصداقة وزمالة محترمة مثل الكيالي، والقصيباتي ونبيل شقير وبندلي أبومهر «الحلاق الخاص للشهيد وصفي التل» والمحتسب ومروان الكردي وصلاح الصدر والبوري وحنا قرموط ابويوسف «صالون الأصدقاء شارع طلال» وآخرين.
*الهوى هاشمي
ويعتز «حجير» ويفتخر دوما أنه كان أحد حلاقي جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، عندما كان أميرا، ويزيّن صدر صالونه العريق بصورة تجمعه بمعية جلالة الملك عبدالله الثاني ونجله سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ويقول حجير: الهاشميون دوما وابدا هم عنوان التسامح والمكارم والتواضع والالتصاق بالشعب، وهم دوما أقوياء بمحبة الناس لهم.
يواصل العم «ابوالعبد حجير» سرد ذكرياته مع المهنة بالقول: كانت أسعار الحلاقة زهيدة جدا وبـ»القروش» الحمراء و»الشلن» و»البريزة» لكن في ذلك الزمن كانت النقود «فيها بركة»، والناس كانت متحابة تتكافل في إعانة بعضها البعض.
كان شارع فيصل يجسد حقيقة شارع المال والأعمال، وقد كان يضم البنك العثماني والبرق واللاسلكي ومواقف باصات وسيارات عمان/ فلسطين، ومقر بلدية عمان، والبنك العربي وشركة ادلبي وملص وبدير وفندق الملك غازي، وكانت نافورة ماء تراثية جميلة في الجزر الوسطية للشارع، و»الذهبي» أعرق وأفخم متجر لبيع الساعات الثمينة.. وكانت ايضا هناك كافتيريا الساعة حيث السندويتشات اللذيذة والعصائر المبردة.
*باشاوات في الصالون
وعن أبرز زبائن «صالون الكرمل» يقول حجير: زبائن الصالون منذ الستينيات من القرن الماضي وحتى الآن هم من نخب المجتمع العماني يتمتعون بعشقهم للآصالة العراقة ويعشقون المكان: منذ سنوات طويلة وحتى يومنا هذا فإن صاحب الخُلق الرفيع دولة رئيس الوزراء الأسبق الباشا نادر الذهبي، أبرز من أعتز وأفتخر بأنهم من زبائني، ورئيس الوزراء الاسبق الاستاذ عون خصاونة، ورئيس الوزراء الاسبق علي ابوالراغب.. وكان أيضا من زبائني مدير الأمن العام الأسبق الباشا نصوح محيى الدين، ووزير العدل الأسبق الاستاذ طاهر حكمت، وكان أيضا من زبائن الصالون حسين أبوالراغب والد رئيس الوزراء الأسبق علي أبوالراغب، والتاجر العماني الكبير نبيل المعشر، ووزير الثقافة الشعبي المرحوم حسن ابوعلي مالك كشك الثقافة العربية، وعرفت فيهم جميعا الأخلاق الحميدة والكريمة والتواضع وحب الخير والانتماء الصادق.
*مجمل العشق وعلى عشق ووجد
إن رغبت أن تستنشق الهواء العماني منسوجا بذكريات الرضا والصبر، وإن شئت الجلوس على كرسي الأناقة والثقافة والعراقة، فما عليك إلا أن تستعد لمزاج عال من القصص الشيقة والروايات المنعشة التي حفرها عميد الحلاقين العمانيين وأعرقهم على الإطلاق «أبوالعبد حجير» على رأس كل زبون على امتداد سنوات طويلة جدا، من الاخلاص للمهنة والمبادىء الطيبة، بعد ان تكون قد حلقت شعرك وذقنك لتخرج من صالون الكرمل معتقا، منتعشا بـ الكولونيا ونكهة الرشاقة المحببة.
وتمضي مشرقا في شوارع عمان العتيقة وازقتها.. لتبقى دوما «عمان في القلب» كما بشرتنا فيروز بصوتها الملائكي في ذات زمن جميل.
Kreshan35@yahoo.com