جفرا نيوز -
تمتلئ ساحتنا الوطنية بكثير من الكلام، ولدينا الآن قدرة فائقة على انتقاد أي شيء، وربما كل شيء، صغر أو كبر، لقد أصبحت حياتنا اليومية مشبعة بالهموم والشكوك، وحالة التذمر بلغت حدا يبعث على القلق، والسلبية تكاد تطغى على كل حديث يدور في الجلسات الخاصة، والمناسبات العامة، حتى تراجعت الروح الإيجابية بصورة لم يسبق لها مثيل!
الكلام يملأ الساحة، وبعضه إن لم يكن جلّه بلا فائدة، ذلك أنه من نوع التعبير غير المنظم ضمن إطار واضح محدد يستند إلى حقائق ثابتة، ويتجه نحو هدف متفق عليه، رغم أنه نابع في معظمه من حرص، وربما وطنية صادقة، غير أن ذلك السيل العارم من المشاعر والانطباعات وردود الأفعال لا يصب في مكان محدد، كي يشكل رأيا عاما قادرا على التعبير عن المصالح العليا للدولة ومواطنيها ومستقبل أجيالها.
عندما تحدثنا عن ضرورة العمل على تهيئة بيئة سياسية مناسبة من خلال الأحزاب البرامجية والانتخابات النيابية وغيرها، مما يحقق مبدأ توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار؛ لم يعر كثيرون أي اهتمام لتوجه من هذا النوع، وظنوا أنه مجرد كلام نظري غير قابل للتطبيق على أرض الواقع، وفي الحقيقة أن الغاية كانت وما تزال تكمن في تنظيم الحياة السياسية، والحزبية، والبرلمانية، بحيث تتكون حواضن منظمة للأفكار والتوجهات والآراء السياسية، ويصبح للكلام أهمية وفائدة في تشكيل وبناء موقف وطني إيجابي.
الإيجابي هنا لا يعني تجميل الصورة ولا غض النظر عن الأخطاء أو المخاطر، وإنما التعبير السليم عن الانتماء للوطن ومساندته القوية في مواجهة التحديات والضغوط التي يتعرض لها، والتقييم الموضوعي للأداء العام، وانتقاده بشكل صارم إذا لزم الأمر، وتقويمه عن طريق التشريعات، والقوانين، والرقابة، والحوكمة، وذلك هو الفارق الكبير بين الكلام – بمعنى التعبير عن الآراء – عندما يكون عشوائيا مزاجيا بعيدا عن الواقع، وبين أن يكون منظما هادفا، وفق لغة سياسية تليق ببلد يزخر تاريخه السياسي بالأحداث، والتطورات، والتجارب القاسية والمفيدة أيضا على مدى قرن من الزمان، وتستقيم مع مفاهيم الدولة القوية الصامدة في وجه الأزمات، والقادرة على مواصلة برامجها الإصلاحية في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية، وغيرها.
مرة أخرى نحن بحاجة إلى بيئة سياسية تعيد تنظيم موقفنا من قضايا بلدنا الداخلية والخارجية، وبعضها يتطلب درجات عالية من الفهم والوعي والتحليل، وقد كان من اللافت حقا حديث جلالة الملك خلال لقائه رئيس المكتب الدائم لمجلس الأعيان وأعضاءه، حين أكد ضرورة أن تكون رسائل الدولة واضحة ومحددة أمام الأردنيين، وأهمية دور الحكومة في شرح أي مسألة قد تثير الشائعات بسبب عدم وضوحها أو تفسيرها بطريقة خاطئة، ولا شك أن معظم الكلام الذي تعج به ساحتنا الوطنية ناجم عن غياب الشفافية والوضوح الذي لفت جلالته الانتباه إليه.
حين تكون البيئة السياسية الحاضنة سليمة وفاعلة فإن ذلك الوضوح سيأتي حكما وليس خيارا!