وبمثابة مفاجأة سارة في سياق الدراسة، جاء اكتشافنا بأنه على الرغم من مساهمة تدابير الإغلاق المتتالية في إبقاء الناس داخل بيوتهم وبالقرب منها، رغماً عن إرادتهم، فإن ارتياحهم ورضاهم تجاه أحيائهم والمناطق المجاورة لبيوتهم، ظلا ثابتين طوال هذه الفترة، في كل من لندن وباريس. كما أن المفاجأة الكبرى حتى، تمثلت في تزايد رضاهم تجاه الخدمات المحلية في تلك الأحياء والمناطق المجاورة. ويمكن القول هنا، استنتاجاً، إن مجرد عدم ذهاب الناس إلى وسط المدينة، لا يعني أنهم يودون مغادرة مدنهم.
استكمالاً في الموضوع، وفيما هناك أيضاً تقديرات مختلفة تشير إلى مغادرة كثيرين من سكان لندن مدينتهم إبان الجائحة، إلا أن اللندنيين والباريسيين على ما يبدو لم يغدوا أكثر ميلاً للقول بأنهم يخططون لمغادرة لندن وباريس خلال السنوات الخمس المقبلة. أما بالنسبة إلى أولئك الذين يفكرون في المغادرة، فإن معدل شخص واحد من أصل عشرين بأوساطهم، أشاروا إلى مخاوف تتعلق بالجائحة الراهنة، أو بجائحات أخرى محتملة في المستقبل، كسبب لمغادرتهم. لذا، بالإمكان القول إنه بعد أكثر من سنتين من عمر الجائحة فإن العيش المديني لم يفقد جاذبيته وبريقه على ما يظهر.
كذلك ثمة تفاؤل ملحوظ يتعلق بقدرة هاتين المدينتين (لندن وباريس) على معاودة النهوض من واقع الجائحة، وهو الأمر الذي يمكن أن يمثل أخباراً سارة لمناطق وسط المدينة، إذ إن أغلبية المستطلعين في كلتا العاصمتين يتوقعون في النهاية تعافي مدينتيهم من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، فيما توقع ربع المستطلعين في لندن الكبرى تعافياً سريعاً. كما توقع المستطلعون في المدينتين أن يشهد قطاعا الضيافة والخدمات الثقافية تحسناً ملحوظاً خلال السنوات القليلة المقبلة.
وسكان لندن من جهتهم، على الرغم مما اختبروه إبان الجائحة، ما زالوا يعتقدون أن القرب من شبكات المواصلات الجيدة يمثل العامل الأهم الوحيد الذي من شأنه أن يجعل من أي منطقة مكاناً جيداً للعيش. أما بالنسبة إلى الباريسيين فإن هذا الأمر يبقى واحداً من العوامل الثلاثة الأهم. هذا على الرغم من حقيقة أن عدداً أكبر من سكان لندن كانوا قادرين على العمل من البيت، لبعض الوقت في الأقل، أكثر من أمثالهم الباريسيين. لذا يمكن القول إنه، حتى مع تحول العمل من بعد إلى أمر مطروح وقابل للتحقق، ومع مستويات الرضا المستقرة تجاه خدمات المناطق المحلية، فإن اللندنيين ما زالوا يريدون إبقاء صلتهم بباقي أنحاء مدينتهم.
لكن في المقابل، يبقى أمام لندن بعض الأشياء غير المطمئنة، إذ بالنسبة إلى أولئك الذين يفكرون في مغادرة المدينة، فإن مسألة مستوى الحياة تشكل السبب الأول الذي يدعوهم إلى ذلك (للمغادرة)، وتليها مباشرة مسألة تكاليف العيش. فمدينة لندن تعتبر مكاناً أفضل للبدء بتجربة مهنية أو بمشروع، لكن هذا له ثمن، إذ إن العاصمة البريطانية تعد أغلى من باريس من ناحية تكاليف العيش، وتتصدر هموم السكن فيها، كما هو معروف، باقي الهموم المعيشية.
نتيجة لهذا، ربما يرى اللندنيون مدينتهم مكاناً أفضل لمن هم أصغر سناً وللأغنياء، وليس للعائلات والمسنين والفقراء. والجائحة في هذا الإطار لم تقض على جاذبية لندن، لكنها ربما تسببت في تقويض صورتها [تراجع شعبيتها]، إذ يمكن لأمر غلاء المعيشة أن يلحق بصورة المدينة أضراراً تدريجية، إن لمن يعالج.
وعلى الرغم من التفاؤل السائد المتمثل في اعتبار أن مدينتي لندن وباريس سوف تتعافيان بالإجمال، فإن الباريسيين واللندنيين على حد سواء يرون بأن مسائل مثل توفر المساكن، ومعدلات التلوث، وفرص التوظيف، سوف تسوء وتتفاقم في السنوات القليلة المقبلة، إذ إن المخاوف المتعلقة بالتغير المناخي وجودة الهواء بدت كبيرة في كلتا المدينتين، وذلك بغض النظر عن وجود تأييد للسياسات التي تحاول معالجة هذه الأمور على المستوى المديني الواسع.
كذلك لدى المدينتين مسائل محددة يواجهها بعض سكانهما، فالنساء في لندن أظهرن معدلاً أكبر من معدل الإناث في باريس بالتبليغ عن تعرضهن لمضايقات الذكور في الشوارع. أما الباريسيون من جهتهم، فمعدلهم جاء أقل من اللندنيين من ناحية اعتبار أن الناس ذوي الخلفيات الإثنية والدينية والاجتماعية المختلفة كانت أحوالهم جيدة في مناطق سكنهم. كما سجل الباريسيون نصف معدل اللندنيين في ما يخص اعتبار أن الهجرة الدولية تمثل أمراً إيجابياً لمدينتهم.
يبقى في النهاية أن مجالات مهمة عديدة تحتاج إلى التحسين والتطوير في كلتا المدينتين. وعلى أولئك المسؤولين عن هاتين الحاضرتين العالميتين العظيمتين التعامل بجدية مع هذه التحديات الكبرى، إذ إن المحاولة في هذا الإطار وجيهة بالتأكيد، كون الحياة المدينية لم تفقد بريقها بعد.
الدكتور جاك براون هو أستاذ محاضر بالدراسات المتعلقة بمدينة لندن في جامعة "كينغز كوليدج لندن".