النسخة الكاملة

عقل بلتاجي سمفونية العصامية وقاموس العمل

الخميس-2021-03-02
جفرا نيوز -
جفرا نيوز - مهدي مبارك عبد الله

غيب الموت بعد ظهر يوم الأحد الماضي 28 / 2 / 2021 الرجل الراقي والعصامي عمدة عمان السابق والوزير والعين الأسبق عقل بلتاجي الذي رحل بهدوء يشبه سكينته التي تحصن بها منذ سنوات عديدة عن عمر ناهز الـ 80 عاماً متأثراً بإصابته بفيروس كورونا المستجد في زمن صعب استشرى فيه الموت بصمت وهدوء حيث شكل غيابه فقدانا لقامة وطنية كبيرة نذرت نفسها حتى الرمق الأخير من حياتها للعمل الدءوب من أجل حفظ الوطن الغالي وترويج مكانته ورسالته النبيلة فكل من عرفه عن قرب أكد بأنه كان على الدوام صديقا صادقا لم يعرف في قلبه غير الود والمحبة ولم يضمر في وجدانه غير الخير والاحترام لجميع الناس

رحل عنا الرجل النبيل عقل بلتاجي الذي شكل بوصفه واحدا من رجالات الرعيل الأول نموذجا حيا للصورة الوطنية الصافية التي تجمع ولا تفرق وكما هو على الدوام واضحا في قول الموقف الذي يؤمن به من دون تجريح ولا إساءة ولا توظيف ولا مطامع وهو يسطر أروع قصص النجاح لشخص عصامي التكوين ومن محيط اجتماعي متواضع حفر طريقه بين الصعاب منذ نعومة أظفاره في مسيرة قاسية ووعرة فهذا الرصيد المهني الكبير الذي حققه لم يكن إلا نتاج كفاح ومثابرة شق طريقه فيه رغم كل التحديات والعقبات ودون إن يحالفه الحظ في إكمال دراسته الجامعية

لقد نجح بلتاجي بشكل تدريجي وبطريقة منظمة ارتكزت على الدقة في العمل والاستقامة ووضع الاستراتيجيات البناءة واحترام النظام العام إضافة إلى اجتهاده وصدقه وإخلاصه وكفاءته ليصبح ( العابر لمعظم الوظائف القيادية في الوطن ) بتميز وانجاز في جميع المواقع التي شغلها والخدمات التي قدمها ولم يسعى يوما لمنصب أو جاه بل دائما كان يلبي نداء وطنه دون تردد وهو شخصية قيادية مكافحة صنعت نفسها من الصفر وعاش طيلة حياته بسلام مع الذات لم تبدله المسميات والمراكز وقد كان رحمه الله صاحب ظل خفيف وعقل رزين ودود مع أصدقاءه وقريب من الناس وعاشق لوطنه ومحافظ على قسم الولاء ويشيع المحبة أينما حل وارتحل لم يرخ مفاليد خيوله يوما للاستسلام في واقع صعب ومؤلم كل شيء فيه كان يقود إلى الإحباط

كم كان لافتاً الإجماع الشعبي عبر مواقع التواصل المختلفة ونعي كثير من المسؤولين كدليل على المحبة والتقدير الراحل بلتاجي كما كان لافتاً أكثر عمق الصدمة والحزن على غيابه المفاجئ وفي ذلك مؤشراً حقيقي على غنى تجربته ليس على صعيد العمل العام وقيادة الأعمال بل على صعيد عمق العلاقات الإنسانية مع كل من تعامل معه وعرفه وقد شهد له الكثيرون بطيب الخصال والسجايا

لم يكن عمدة عمان الراحل يحبذ الاجتماعات عن بعد بل كان يفضل اللقاءات وجهاً لوجه لأنه كان يقدس العلاقات الشخصية التي كانت فوق الوصف مع جميع زملائه وأصدقائه حيث كانت علاقته مع جميع الذين عمل معهم علاقة شخصية وليست فقط علاقة عمل جامدة ومؤطرة كما يؤكد كل من عاشره وعمل معه ان سر نجاحه وتفوقه يعود بالأساس الى اجتهاده وانضباطه وذكائه في إدارة عمله وقدرته على تحفيز العاملين معه وشد هممهم للنجاح والتقدم ويقال انه ما يدخل على مناسبة اومكان عام إلا ويسلم على الصغير قبل الكبير وانه عندما يرد على الهاتف يقول (عقل يتكلم تفضل أي خدمة )

وإثناء عمله أمينا لعمان ساهم بقدر إمكاناته المتاحة في حينه بمحاولة نقل العاصمة الى المستوى الريادي المأمول وجعلها أكثر تنظيما وبهاءا من خلال نشاطه الدؤوب والملحوظ في معظم مساراتها التنموية والخدمية وقد كان يردد دائما بان عمان هي إلام لنا وستبقى الأم الوجدانية والمكانية لكل أردني ليفتخر ويعتز بها في كل وقت وحين

لقد كان الراحل بلتاجي يمتلك كاريزما خاصة متعددة الامتيازات في شكله وبساطته وأناقته وسعة اطلاعه ومعرفته وحديثه اللبق واتقانه عدة لغات أجنبية ( الانجليزية والفرنسية والاسبانية والايطالية والعبرية والروسية بطلاقة ) وإثناء زيارة بابا الفاتيكان للأردن عام 2014 كان من المرافقين المقربين منه لتمكنه من اللغة الايطالية ولغات الفاتيكان الأخرى

هذا وغيره كثير جعلته دائما محل اهتمام رسمي وتأثير شعبي يعتمد عليه في تمثيل الأردن وترويجها عالميا والتحدث باسمها في معظم المحافل الإقليمية والدولية وكل من عرف عقل بلتاجي أحبه كرجل دمث الخلق ومهذب ومثقف وقارئ ماهر وحذر ( متذوق للشعر والأدب والموسيقى العربية والأجنبية وصوته رائع وجميل ومطلع على التاريخ والحضارات وعلم اللغات والآثار والسياحة والفلسفة الغربية كما كان يقرا الصحف اليومية والأسبوعية والروايات والكتب باللغات العربية والأجنبية ) وهو بلا شكك رجل راقٍ ومتواضع وعلى دراية بكثير من إسرار الأردن التاريخية الاجتماعية ومحب للعادات والتقاليد فضلا عن رحابة تفكيره وشعوره الإنساني الجياش
ومن طرائف مواقفه النادرة بعد ان غضب الناس وبعض النواب من تداول صورة له لحظة مصافحته للسفير الإسرائيلي السابق في عمان ( أمير ويسبورد ) في احتفال رسمي للسفارة الأوكرانية في عمان قال أن السفير الإسرائيلي هو من قدّم نفسه له وبادره بالمصافحة وقال وقتذاك ( صافحت السفير الإسرائيلي بيدي وصفعته بلساني ووجهت له كلاما قاسيا لن ينساه طوال عمره )
كما كان رده على موجة الانتقادات بسبب اختياره عضو في مجلس أمناء المعهد الملكي للدراسات الدينية بأنه كان أحد كتبة ( رسالة عمان ) وكثير من الناس لا يعلمون ذلك وإن الخبرات المتراكمة التي اكتسبها أثناء عمله في الملكية الأردنية ووزارة السياحة وأمانة عمان أهلته لشغل المناصب التي تولاها على الرغم من عدم إكماله دراسته الجامعية وهو حاصل على (الثانوية العامة ودبلوم متوسط والشهادة العامة لامتحان لندن المستويين العادي والمتقدم 1959وقد درس كمعلم في مدرسة الفردنز في رام الله حتى عام 1961 ) إلا أن الحياة علمته الكثير من المعارف والتجارب وهو حقا وصدقا كان ( ابن الحياة ) حيث ترك بصمات مميزة ومشهودة في جميع المواقع كرجل دولة وقامة وطنية بامتياز

أما عن الايدولوجيا والتكوين السياسي فقد عرف عقل بلتاجي بأنه يساري النزعة والتفكير وعروبي الانتماء وتقدمي الهوى متعصب لعروبته بشكل بالغ وقد سجن في أيام شبابه واعتقل في دولة عربية مجاورة لأرائه السياسية الموغلة في الثورية التي كانت سائدة في تلك المرحلة

ولد عقل بلتاجي في غزة عام 1941 وشغل منصب أمين مدينة عمان حتى عام2017 كما كان عضو في مجلس الأعيان لعدة دورات وفي مناصب عديدة أبرزها مستشار للملك في الديوان الملكي الهاشمي ونائب المدير الأول لمدير عام الملكية الأردنية ورئيس اللجنة العليا لمهرجان جرش للثقافة والفنون ورئيس مجلس المفوضين سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة في مدينة العقبة جنوب الأردن وزيراً للسياحة والآثار وغيرها ويعتبر أول عربي يحصل على لقب نائب رئيس المنظمة العالمية لخدمات وتموين الطائرات

سلام عليك أيها العمدة ابا الليث وسلام لك أيها العابر من مملكة الأرض إلى مملكة السماء وسلام لك وسلام عليك أيها الراحل الكبير على غفلة وسلام لروحك الطاهرة ولابتسامتك الدائمة ولمشاعرك النبيلة ولمواقفك الإنسانية ولمناقبك الجليلة ولسيرتك العطرة ولمسيرتك الطيبة عند كل استحقاق وفي كل منعطف حيث رحلت بجسدك ولم ترحل بروحك حين لم تغضب أحدا وكنت قريبا من الجميع

نستودعك الرحمن الرحيم ( محمد عقل بلتاجي وهذا الاسم الرسمي له مركب محمد عقل ) لتكون في رحاب الله في مقام كريم مؤكدين بان الأردن بغيابك سيفتقد وجها جميلا تميز بالخلق الرفيع والثقافة العالية والتفاني في خدمة الوطن وان ضحكتك النقية والصادقة والمعبرة لن تمحى ولن تغيب بإذن الله من خواطرنا في وقت لا تطاوعنا قلوبنا ولا أقلامنا أن نقول لك وداعا أيها الأخ العزيز

ختاما نتقدم من عائلة المرحوم الدكتورة نوار فريز وأولاده ليث وقيس وأصدقائه وأقربائه بأحر مشاعر التعازي والمواساة سائلين الله تعالى أن يلهمهم جميل الصبر والسلوان وان يرحم فقيد الوطن ويسكنه فسيح جناته كما نتمنى لجميع الأردنيين والعالم اجمع العافية من وباء كورونا الخبيث الذي يخطف من بيننا كل يوم أعز الناس وإنا لله وإنا إليه راجعون
mahdmublat@gmail.com